صور ناطقة للتحوت والروابض 14و15 و16

صور ناطقة للتحوت والروابض

14+15+16

أحمد الجدع

[14]

كان ذلك عندما ذهبت إلى جزيرة العرب لأعمل مدرساً ، جمعتنا جلسة هادئة تجولنا فيها بين همومنا وأحزاننا .

ذهبنا نبحث عن الحسنات لنمتدحها والسيئات حتى ننتقدها .

المساحات واسعة للنقد ضيقة للمدح .

قال قائل منا ينتقد اتفاقيات النفط بين أصحاب الأرض المتفجرة بالنفط وبين الدول التي تخرج النفط وتكرره وتسوقه .

كانت اتفاقيات مجحفة بحق أصحاب النفط .

كان معنا رجل محدود الثقافة ، استمع إلى نقدنا فلم يعجبه ، لقد كان يرى أن هؤلاء الأجانب قد بعثهم الله لنا حتى يكونوا لنا خدماً .

قال بنبرة حادة : لقد بعث الله لنا هؤلاء الأجانب حتى يكونوا لنا أجراء ، يخدموننا دون أن نبذل جهداً ، هم يحملون عنا الجهد والعناء ، ونحن نقطف الثمار ونجني الأرباح .

يقول : ألم يُعَنِّ هؤلاء الناس أنفسهم ، بترك أبنائهم ونسائهم وأوطانهم ورفاهيتهم ، ويأتون إلى بلادنا القاحلة الحارّة التي تشوي الوجوه ، ثم يأتون بآلاتهم وسياراتهم فيدأبون على حفر الأرض إلى أعماق لا نستطيع أن نصلها نحن ولو عشنا دهوراً طوالاً ، ثم يستخرجون هذا النفط الأسود الذي لا فائدة له عندنا ، ويشترونه منا ، ثم يذهبون به إلى بلادهم فيحولونه إلى شراب للسيارات والطائرات ... ثم يأتون به إلينا نسقي به سياراتنا فنقطع بها الصحاري الشاسعة نتواصل مع أهلنا وذوينا وتنفعنا في كثير من أمورنا ، ثم إنهم هم الذين دفعوا لنا الأموال لنشتري بها السيارات والثلاجات والمكيفات والآلات الأخرى .

أيها المتعلمون كفاكم شتماً ولطماً ... إن هؤلاء الذين تشتمونهم وتلعنونهم هم الذين يدفعون لكم أجوركم ، لولاهم لما جئتم إلينا وعلمتم أولادنا ، وأنا أخشى أن تسمموا أفكار أبنائنا بما تقولون عنهم ما لا يستحقون ...

حاول الجالسون أن يشرحوا له فلم يستمع ، وكاد أن يتشابك معهم بالأيدي .

كان أحد الجالسين يردد بيت الحطيئة :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها        واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

ولكن صوت الجهل أقوى .

حسبنا الله .

                

[15]

في الأمثال العربية مثلان متناقضان ، يقول أولهما : جوِّع كلبك يأكلك ! ، ويقول الثاني : جوِّع كلبك يتبَعْك !

في هذا العصر الجبري اختار أمراؤنا المثل الثاني : جوِّع كلبك يتبعك ، فضيقوا على الناس بكل السبل ، وأمعنوا في ذلك حتى أصبحت شعوبنا العربية ومعها الإسلامية أفقر الشعوب ، وحتى صارت نسبة الفقر فيها تتفوق على نسب الفقر في كل شعوب الأرض .

أمراؤنا حاولوا أن يتفوقوا في ميادين كثيرة ، فلم ينجحوا إلا في إفقار شعوبهم .

أصبحت هذه الشعوب أشد العالمين فقراً ، يجري الرجل يومه كله ليسد جوعة عياله !

قال قائل يصف بلادنا وشعوبنا : إنها أكثر البلاد غنى وأشدها فقراً .

ثم يسألون : لماذا تتأخر الثقافة في بلاد العرب والمسلمين ، لماذا أصبح التعامل مع الكتاب حلماً ؟

أقول : هل يستطيع رجل فقير أن يشتري كتاباً ؟

إليكم هذه الصورة التي شاهدتها بنفسي :

دأبت الهيئة المصرية العامة للكتاب في مصر على تقديم عروض مغرية لأسعار الكتب تشجيعاً منها لجمهور المصريين لاقتناء الكتب ، ومما عرضته يوماً وكان مغرياً جداً أن يدفع المشتري خمسة جنيهات مصرية مقابل أن يختار عشرين كتاباً مما يعرض أمامهم .

وبالرغم من إغراء العرض لم يكن الإقبال كبيراً .

كان شاب مصري يجول بعينيه بين الكتب ، يعجبه كثير منها ، يلمس هذا ويتركه ، يحمل ذاك ثم يعيده مكانه ، يفتح ثالثاً ويقرأ منه ثم يهز رأسه يائساً !

جال بنظره بين الموجودين ، فمال إلى واحد منهم وقال له : هل تشاركني في الشراء ، أختار عشرة كتب وتختار أنت مثلها ، فأدفع جنيهين ونصف وتدفع ما يكمل الجنيهات الخمسة ؟

شاب يتلهف على الشراء فلا يستطيع ، وإذا علمنا أن الجنيهات المصرية الخمسة تساوي دولاراً واحداً علمنا مدى العجز المادي الذي وصلت إليه الشعوب !

أقول : وصلت إليه ، وحتى لا يظن القارئ أنها وصلت إليه باختيارها ، أعيد عليكم المثل : جوِّع كلبك يتبعك ... هذا ما اختاره الروابضة والتحوت من أمرائنا ... ولكن إذا اشتد الجوع بالكلب أكلك !

حسبنا الله .

                

[16]

بلادنا مستباحة ، واليهود يعربدون في فلسطين ... والظلم والقهر مخيم على العباد ، فكيف السبيل إلى النجاة ؟

قالوا إن أوروبا لم تتقدم ولم تنتصر علينا إلا عندما حاربت الدين واستعصمت بالقومية !

ولا بد لنا أن نأخذ بما أخذوا به ، نعتنق القومية ونطلق الدين !

هم لم يطلقوا الدين كما فعلت أوروبا ، بل شهروا في وجهه كل أنواع الأسلحة ، وقمعوا كل من تدين ، وغيبوا في أعماق الحفر كل من نادى بأن يكون الدين حُكْماً وحَكَماً !

وأصبح كل شيء في بلادنا يغني للقومية ويسبح بحمدها ، وأصبح لها دول وأحزاب وجماعات ، وفازت في جميع الانتخابات ، وأصبحت مجالس الأمة عندنا قومية الوجه والسمات !

أصبح لحزب قومي دولتان ، فما وسعتهما القومية أن يتحدا ، بل حارب أحدهما الآخر حتى أعان عليه الأجنبي .

إذا دخلت حدود إحدى هذه الدول قرأت على بوابتها شعارين كتبا بالخط العريض :

أحدهما شعراً :

العُرب أشرف أمةٍ

 

من شك في قولي كفر

نعوذ بالله من الكفر .

وثانيهما نثراً :

الحزب حرب على الحدود .

وأشهد أن العربي ما تعذب على الحدود أشد من عذابه على حدود صاحبة هذا الشعار .

وهم مع الفشل المتواصل في كل شيء ازدادوا حقداً على الإسلام وعلى محبيه وعلى أتباعه ، وعلى المنادين بتحكيمه ، واتخذوا لذلك كل السبل .

وما زاد ذلك دعاة الإسلام إلا إيماناً وتصميماً ...

كان لي زميل قومي ، لا يحلو له إلا الغمز بالإسلام والمسلمين ، وكان بارعاً في اختيار السبل لذلك ، يثير الشبهات حول واحد من دعاة الإسلام ثم ينهال عليه نقداً ثم شتماً .

ناقشته بالحسنى فلم يكف ، هددته فلم يرتدع .

ذات يوم تناول أحد علماء الدين بالنقد العنيف ، وهو يريد من وراء ذلك الاستخفاف بالإسلام عن هذا الطريق .

طلبت منه أن يكف ، فلم يفعل .

ثار الدم في وجهي فقمت إليه بالعصا أريد أن أردعه ، ذلك لأن العبد يقرع بالعصا !

قام الزملاء فحالوا دون ذلك ، قلت لهم لماذا تفعلون ذلك وأنتم تعلمون أن العبيد أنجاس مناكيد ؟

ابتسموا وجلسوا .

أليس الذين يبيعون دينهم عبيداً ... وأنجاساً مناكيد ؟

حسبنا الله .