الحركة الإسلامية ومعالم الخطاب السياسي الناجح 1
الحركة الإسلامية ومعالم الخطاب السياسي الناجح
(01 من 02)
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
إن التوغّل في مسالك العمل السياسي، والدخول إلى ميدان المنافسة، والتأقلم مع قواعد اللعبة، لتحسين الرقم والوزن والموقع في الساحة السياسية، يتطلب من كل حركة سياسية تريد ذلك ، أن تفهم الكيفيات والآليات التي يتم من خلالها تشكيل الرأي العام، وصناعته والتأثير عليه وفيه، إيجابا وتفاعلا واستيعابا ، بعيدا عن الدهاء الرخيص والمكر الخسيس والمناورة المقيتة.
ومن ثم تكون سعة العلم والأفق ورجاحة العقل ورحابة الفكر وألمعية الذهن ونفاذ البصيرة وسداد الرأي ورزانة السلوك وحسن السمعة والخبرة الكبيرة والتجربة المعتبرة ، عوامل أساسية لكل سياسي يريد أن يحقق النجاح وينال ثقة الآخرين وتزكيتهم واحترامهم ، وتمكّنه من تحقيق مكاسب معتبرة ، لأنّ الذي يدخل بحر العمل السياسي بمده وجزره وأمواجه وأعاصيره ، لابد أن يكون سباحا ماهرا ويملك الأدوات اللازمة والوسائل الملائمة والمهارات الكافية حتى لا يجرفه التيار وتغمره الأمواج ، فالسياسة كالسمكة الكبيرة تبتلع الذين يصغرون عنها ، كما قال الدكتور السباعي رحمه الله .
لأجل كل هذا فإنّه لابدّ من صياغة خطاب سياسي واقعي لا مكان فيه للسطحية والغوغائية والعشوائية والارتجال ، يعتمد الاستقراء المعمّق والتحليل الدقيق مع التقويم الدائم والمراجعة المستمرة، للارتقاء به من الحسن إلى الأحسن ومن الصالح إلى الأصلح ، والارتفاع به إلى مستوى العصر لإحداث التفاعل الحضاري بينه وبين الآخرين ، وهذه معضلة الحركة الإسلامية في كثير من الأحيان وهي تمارس العمل السياسي ، بحيث تغيب من قاموسها أبجديات العمل السياسي الناجح والمحترف الذي يأتي في مقدمته الخطاب ، الذي يعتبر مفتاحه وأهم معايير نجاحه ، والفشل في صياغته بشكل صحيح ، يؤدي دون شك إلى نتائج هزيلة أو عكسية في مجال الفعل السياسي ، أو تكون نتائجه كارثية على الحركة ومشروعها والمجتمع والوطن ، والأدلة على ذلك ماثلة للعيان من خلال التجارب المأساوية التي تسببت فيها حركات إسلامية مارست العمل السياسي دون أن تراع كل هذه القضايا.
فلابد من تجاوز توظيف التاريخ والمظلومية وفكر المحنة ، والابتعاد نهائيا عن لغة العواطف والشعارات وردود الأفعال ، والانتقال إلى الاحترافية واعتماد خطاب واضح لا غموض فيه .
لأن العناية الجادة بنوعية الخطاب هو المقدمة الصحيحة لنجاح التمكين للمشروع في دنيا الناس ، وهو مفتاح القبول ، وعن طريقه تستطيع الحركة أن تحسن تسويق مواقفها ومبادئها وأهدافها ومشاريعها ورجالها ، والعكس قد يكون فشل الخطاب سببا رئيسيا لرفض كل ذلك والزهد فيه مهما بلغ من الحقيقة والصحة ، فكثيرا ما يكون الخطاب سببا مباشرا لجعل حواجز سميكة بين الجماهير والحركة ، ويكون مبعث شك وضبابية وغموض ، عوض أن يكون مبعث طمأنينة ووضوح وتقدير، كما قال الشيخ الغزالي رحمه الله:(إن السلعة النفيسة قد تكسد بسوء العرض وقصور الإعلان ، وتسبقها سلع أخرى أحسن أصحابها الدعاية لها واجتذاب الأبصار إليها ).(1)
نحسب أن معالم هذا الخطاب الناجح يمكن أن تتمثّل فيما يلي :
1) ــ الربانيـــة :
من المعالم المهمة التي ينبغي أن تتوفر في الخطاب السياسي الناجح خاصة لدى الحركة الإسلامية الربانية ، بحيث يكون منطلق الخطاب ووسيلته وغايته تتوافق وعنصر الربانية هذا :
ربانية المنطلق : فالحركة الإسلامية المفروض أنها تتعبد الله عز وجل بعملها السياسي والخطاب وسيلة من وسائله ، فلا يمكننا أن نتعبد الله عز وجل إلا بما يتوافق وشرعه الحكيم ، كما أنها تعتبره ــ العمل السياسي ــ نوعا من أنواع الجهاد في سبيل الله ، لذلك لزاما عليها أن لا تمارسه إلا بما يتوافق وهذا التصور.
ربانية الغاية : إضافة إلى ربانية المنطلق ، ينبغي على الخطاب السياسي للحركة الإسلامية أن يكون ربانيّ الغاية ، بحيث تكون غايته الإصلاح ، ودرء المفاسد بشتى أنواعها وتضييق دوائرها ما أمكن ، ومزاحمة المفسدين وتوسيع دوائر الخير والصلاح وتشجيع ودعم كل العاملين على تحقيق ذلك ، والشد على أيدي الساعين إليه بجد وصدق وإخلاص كائنا من كانوا.
ربانية الوسيلة : ومع ربانية المنطلق والغاية ، لا بد أن تتوسطهما ربانية الوسيلة ، فلا ينبغي لخطاب الحركة الإسلامية السياسي أن يكون ميكيافليا غايته تبرر وسيلته ، فلا يتورع عن استخدام وتوظيف الأساليب غير الشريفة من غش وتدليس ووعود خيالية وكاذبة وضحك على الذقون ، فشرف الوسيلة من شرف الغاية ودليل على شرف المنطلق كذلك.
ولا لائكيا منبتا عن الأخلاق والفضائل والضوابط ، تتحكم فيه المصالح والأهواء والمغانم والرغبات ، يدور معها حيث دارت ، بدل أن تضبطه وتوجهه المبادئ النبيلة والقيم الأصيلة والأخلاق الحميدة .
وعندما تضبط الحركة الإسلامية خطابها السياسي بمعلم الربانية في المنطلق والوسيلة والغاية ، إنما تفعل ذلك انسجاما مع مبرر وجودها وأصل مشروعيتها ، وتناغما مع فكرة منهجها ورسالة مشروعها ، ولا تفعله تكلفا أو انتحالا أو تدليسا أو توظيفا أو استغلالا.
فلا ينبغي أن يغيب البعد الرباني في هذا الخطاب بأي حال من الأحوال في الشكل والمضمون والممارسة والسلوك والمقصد والغاية والهدف ، كي يقوم على ركن وثيق ، ومن ثم ضرورة أن يكون التأصيل الشرعي العميق للمواقف والخيارات والتعاملات حاضرا لدى مؤسسات الرأي والشورى والتخطيط والتنفيذ في الحركة الإسلامية ببعده المقاصدي ، وذلك لتحقيق معلم الربانية الذي نتحدث عنه ، ونضمن نجاح الخطاب وقوته وإيجابيته وقدرته على الإقناع ، وكذا استجلابا لتوفيق الله عز وجل وعونه وتسديده.
2) ـــ الواقعيــــــة :
فالساحة السياسية دائمة التحول بسبب تغيّر الوقائع والمعطيات والمواقع ، واختلال موازين القوى ، والضغوط الداخلية والخارجية ، مما يجعلها عرضة للمدّ والجزر، والنمو والانكماش، والتمدد والتقلص، والخطاب الناجح هو ذلك الذي يتعامل مع كل هذه المتغيرات بواقعية ، بحيث لا يبسّط المعقّد ، ولا يهون الكبير، ولا يهول التافه، ولا يصعّب المستساغ ، هذه الواقعية تجعله يتجاوز العفوية وضيق الأفق، ويحتكم إلى الحقائق لا إلى الأوهام ، فلا يجنح إلى المثالية، ولا يجري وراء سراب خادع، أو خيال كاذب، أو حلم فارغ مستعصي التحقيق ، أو أمنية موهومة لا يصدقها الواقع ، يكون كبير الآمال والطموحات نعم، لكن يجعل في حسابه دوما مبلغ الإمكانات المتاحة ، وكثرة العراقيل والمعوقات الموجودة ، يقدّر العواقب تقديرا سليما ، حتى لا يساق ويدفع إلى المواقف الخاطئة، والآراء الحادّة، والمناطق الملغّمة،عندما يصدم بإفرازات واقع لم يضعها في حسابه.
3) ــ الاعتدال :
من معالم الخطاب السياسي الناجح كذلك أن يكون معتدلا في أسلوبه ووسيلته، في نظرته للآخرين وتعامله معهم وموقفه منهم ، في تحديده لمساحات التقارب والالتقاء والافتراق والاختلاف ، بعيدا عن الشطط والتجانف والتشنج والميلان يمينا أو شمالا ، أن يكون وسطا بين التضخيم والتبسيط ، التهوين والتهويل، المدح والقدح ، الإفراط والتفريط ، الغلو والتسيّب ، وسطا كذلك بين الإسراف في التفاؤل، وتجاهل الواقع، والإسراف في التشاؤم، بحيث لا يرى إلا السواد الحالك، والظلام الدامس ، لأنه ما كان هناك إسراف في أمر ، إلاّ كان على حساب أمر آخر قد ضيّع بسببه .
فالاعتدال يتطلّب الموازنة بين المكاسب والخسائر ، بين الطموحات والإمكانيات ، بين المصالح والمفاسد ، السلبيات والإيجابيات ، و بين حال وحال، ظرف وظرف، بين الأهداف المسطّرة ومعطيات الواقع المعاش ، لأنّ نظرية الربح المطلق وإما الكرسي الشاغر غير مجدية في ساحة المنافسة السياسية، زد على ذلك فإن التعلّق بفلسفة الرفض المطلق، من غير موازنة بين كل الثنائيات التي ذكرناها آنفا وغيرها، يكون من البلاهة بمكان ، حيث يعتبر دليل عجز وقصور ، بدل أن يعدّ اجتهاد سياسي مؤسّس وموزون ، فالسياسة هي فن الممكن ، فليس هناك ربح مطلق أو خسارة مطلقة ، إنّما هناك ربح وخسارة، صعود وانحدار ، فيأتي دور الخطاب المعتدل مرجعا الأمور إلى نصابها ، يرجّح ويقيس، ويمحّص ويوازن ، ثم يقدّم رؤية واضحة ، وصورة سليمة خالية من الغبش والتشويه والغموض، للمشكلات والحلول والآراء والمواقف .
فالاعتدال صمّام أمان، ووسيلة وقاية، وأداة ضمان ، لكل خطاب أو مشروع ، من الانتحار السياسي المبكّر :(فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ّولا ظهرا أبقى).
4) ــ الجماهيريــة :
كذلك من المعالم المهمة للخطاب السياسي الناجح للحركة الإسلامية الجماهيرية ، بحيث لا يمكن لها أن تغيّب هذا البعد في خطابها مهما كان موقعها السياسي ، لأنه هو رأس مالها وأحد أهم نقاط قوتها ، وهو الفيصل بينها وبين خصومها ومنافسيها ، وهو السبب المباشر لأي اعتبار يوضع لها من أي طرف كان .
فإذا ما ابتعدت عنه لأي سبب من الأسباب وتحت أي مبرر من المبررات ، وغاب عن خطابها وممارساتها وفعلها السياسي ، فقد حكمت على نفسها بالانتحار، لأن امتدادها الجماهيري هو ماء حياة وجودها السياسي تحديدا : (فمن الخطر أن تعزل الحركة نفسها عن الشعب ، استعلاء عليه أو اتهاما له أو تهوينا من شأنه أو يأسا منه أو انشغالا عنه .
نعم هذا هو الخطر أن تنسى الحركة موقعها من الشعب وموقع الشعب منها ، وأن تنشغل عن هموم الجماهير ومتاعبها ، وتتقوقع على نفسها ، تكلم نفسها وتسمع نفسها ، وبذلك تسجن ذاتها اختيارا في قفص العزلة عن الشعب.
إنما تنجح الحركة يوم تستطيع تحريك الشعب معها ، وأن ينتصر لها ويغضب بغضبها ويرضى برضاها ، ويقدّر مواقفها وجهودها ..
وأن تجعل همها اندماج الحركة في الشعب ، بحيث تجري فيه كما يجري الدم في العروق والشعيرات ، وتختلط به كما يختلط الروح بالجسد ، أو النور بالعين ، فلا يستطاع فصل الحركة عن الشعب ، ولا عزل الشعب عن الحركة.
وهذا لا يتم إلا يوم تتبنى الحركة هموم الناس وتنفعل بقضاياهم ، وتفرح لفرحهم وتأسى لأساهم ، وتشاركهم في سرّائهم وضرّائهم ، ترقص معهم إذا طربوا ، وتبكي معهم إذا حزنوا ، وتثور معهم إذا ثاروا ، فهي منهم وهم منها ، وهي لهم وهم لها).(2)
الجماهيرية تعني أن لا تصادم الحركة النبض الجماهيري العام بأي حال من الأحوال ، لا في خطابها ولا في مواقفها ولا في فعلها ولا في ممارستها ولا في تصرفات رجالها .
وعندما نقول هذا الكلام ، لا نقصد إطلاقا أن تكون الحركة شعبوية ، بحيث ترضي الجماهير ولو بالباطل ، فالحركة الإسلامية ليست فنانا تقدم ما يطلبه المستمعون ولو كان فيه إفسادهم وهلاكهم ــ مع احترامنا لكل الفنانين المحترمين الجادين الأصلاء الذي يقدمون فنا نظيفا وهادفا ورساليا ــ .
الجماهيرية تحتّم على هذا الخطاب أن يتبنّى هموم الناس كما قلنا ، وينشغل بقضاياهم، ويشاركهم سرّاءهم وضرّاءهم، دون تضليلهم عن الحقائق ، أو تخديرهم بأماني كاذبة ووعود معسولة ، وخداعهم بشعارات برّاقة ، يكتشفون حقيقة زيفها بعد حين، فيفقد الخطاب وصاحبه بذلك مصداقيته ـ وهي رأس مال الحركة الإسلامية ونقطة قوتها في ميزان الصراع والمنافسة الذي يجب أن تحافظ عليها مهما كانت الظروف كما سوف نشير بعد قليل ــ ، كما قال أبراهام لنكولن أحد رؤساء الولايات المتحدة السابقين :(إن التغرير بفرد ممكن دائما ، أما التغرير بشعب فممكن بضعة أيام، إلا أنّه غير ممكن كل يوم).
الجماهيرية تحتم على الحركة إما أن تقدر على الدفاع عن خياراتها ومواقفها السياسية ، وتستطيع إقناع الرأي العام بها وبسلامتها وأهميتها وفائدتها بالنسبة إليه ، ومن ثم تجنيده وراءها ومعها في المواعيد الانتخابية المختلفة ، وإما أن تملك الجرأة والشجاعة على مراجعتها وتقييمها وتغييرها إذا لزم الأمر ذلك، وأن لا تبقى في منزلة بين المنزلتين على رأي المعتزلة ، فلا هي تستطيع إقناع الرأي العام بأهمية خياراتها السياسية ، ولا هي تقدر على مراجعتها وتغييرها إلى خيارات أكثر قبولا لديه.
1 ــ قضايا المرأة ، الشيخ محمد الغزالي ، ص27.
2 ــ أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة ، الدكتور يوسف القرضاوي ، ص51/52.
يتبــــع....