القدس عنوان حضارتنا
جميل السلحوت
القدس عاصمة التمدن العربي-2-
في كتابه"قالت لنا القدس"انتبه أديبنا الكبير محمود شقير الى ما أسماه"ترييف المدينة"وأبدى مخاوفه من أن هجرة أبناء الريف الى عروس المدائن سيكون لها تأثيرها السلبي على الحياة المدينية في مدينة القدس، وهذه لفتة كريمة من مثقف فلسطيني كبير خصص جزءا هاما من كتاباته ومؤلفاته عن القدس الشريف، ولم تأت عفو الخاطر، ولكن عن وعي وادراك لما تمثله هذه المدينة الفريدة.
واذا عدنا الى عبق تاريخ المدينة عندما كان العرب عربا، وكان المسلمون مسلمين، سنجد المجاهد الخالد صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القدس من دنس الفرنجة في العام 1187م، فقد أسكن القبائل والعشائر البدوية في تخوم المدن، ليحموها من الغزو القبلي، ولم يسكنهم المدن، فعلى سبيل المثال أسكن عشائر عرب السواحرة أهلي وربعي وأبناء عشيرتي في جنوب المدينة القديمة، على جبل المكبر تحديدا، وكان ذا نظرة ثاقبة في ذلك، واذا كان هناك من يدعو الى ترييف المدينة المقدسة أو(بَدْوِنَتِها)فعليه أن يتذكر أن غالبية المدن الفلسطينية هي قرى كبيرة، جرى توسيعها واقامة أبنية حديثة ومشاريع اقتصادية فيها، وتمّ تشكيل مجالس بلدية لها، أما الحضارة المدينية الحقيقية فإن القدس عنوانها، ليس في فلسطين فحسب، بل في كافة أرجاء العالمين العربي والاسلامي، ولسنا بحاجة الى التذكير أن القدس القديمة بشكلها الحالي سبقت اكتشاف أمريكا بمئات السنين، وأن المسلمين عندما فتحوها في العام 635م الموافق سنه 15للهجرة، كانت مدينة قائمة ولها سور يحميها فحاصروها ما يقارب الستة شهور حتى سلمها البطريرك صفرونيوس للخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وتثبت الحفريات التي تمزق أحشاء المدينة أن هناك أنفاقا ومخازنَ وطرقات تحت المدينة الحالية، وجميعها تشير الى أنها آثار عربية اسلامية، وهناك بعض الآثار البيزنطية عندما استولى الرومان على القدس قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بقليل.
والحديث عن القدس وتاريخها يحتاج الى مجلدات وأبحاث، لكن في كل الظروف فان القدس تخطت منذ آلاف السنين مرحلة البداوة والحياة البدوية والقروية أيضا، وعلينا أن نفاخر بامتدادنا الحضاري عبر التاريخ والذي أكثر ما يتمثل في القدس، واذا تغنى آباؤنا بأن"لندن مربط خيولنا"نكاية بالانجليز الذين استولوا على فلسطين واستعمروها بعد الحرب الكونية الأولى، وفتحوا حدودها للهجرة اليهودية تمهيدا لتنفيذ وعد بلفور باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فان القدس لن تكون مربطا لخيولنا، ولا مكانا لبناء خيامنا، بل ستبقى كما هي عنوانا لحضارة شعبنا وأمتنا.
أذكر ذات يوم في أواخر سبعينات القرن الماضي أن وفدا ثقافيا بريطانيا زار مدينة القدس، والتقى بعدد من المثقفين الفلسطينيين في المسرح الوطني الفلسطيني-الحكواتي- فقال أحدهم:"ان القدس التي تتقاتلون عليها أصغر من أصغر أحياء لندن" فرد عليه الراحل محمد البطراوي قائلا:"لكن القدس بشكلها الذي تراه سبق وجود لندن كمدينة" فاعتذر الزائر البريطاني عن الخطأ الذي وقع فيه.
والعالم جميعه يعترف بحضارة القدس، لذا فان منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة"اليونسكو" تعتبر القدس القديمة ارثا حضاريا للانسانية جمعاء، وهي بهذا شاهد على مساهمة شعبنا الخلاقة في بناء الحضارة الانسانية، فهل تصلح القدس بعد هذا أن تكون"عاصمة للعشائر العربية"؟ وبالتأكيد انها العاصمة السياسية والدينية والتاريخية والثقافية لشعبنا ولدولتنا العتيدة، وهي مفتوحة للمؤمنين العرب والعجم كونها الحاضنة لأقدس مقدسات المسلمين والمسيحيين، فالمسجد الأقصى أحد المساجد الثلاث التي تشد اليها الرحال، وهو مقترن بالكعبة المشرفة في مكة المكرمة، وبالمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، وكنيسة القيامة هي مكان حجيج المؤمنين المسيحيين، لكنها في كل الظروف تبقى عنوانا للتحضر والتمدن.
القدس تاريخ حافل
القدس عاصمة التمدن العربي-3-
عندما يطل المرء على القدس القديمة تنتابه مشاعر لا يستطيع تفسيرها، فنفسه ترتاح ويشعر بسعادة غير مسبوقة، ويشعر أنه قريب من الله، وأن الله سبحانه وتعالى قريب منه، ولا يملك الا أن يخرّ ساجدا لله، وهذا ما فعله الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعندما اكتحلت عيناه برؤية القدس من قمة"جبل المؤامرة"الذي يطل على المدينة من جهتها الجنوبية، هلل وكبر وخرّ ساجدا لله، فأطلق العرب والمسلمون على الجبل اسم(جبل المكبر) وهذا هو الجبل الذي ولدت وعشت ولا أزال فيه أنا البدوي المنحدر من عشائر بدوية، ويقلقني البحث عن المكان الذي هلل وكبر فيه خليفتنا الثاني، فالبناء الاستيطاني يغطي سفوح الجبل من جهاته الأربع، ويتربع قصر المندوب السامي البريطاني على قمة الجبل، ويستعمل منذ انتهاء الانتداب البريطاني في 15 أيار 1948 وحتى الآن كمقر رئيس لقوات الطوارئ الدولية في الشرق الأوسط، وعندما بنى الاحتلال البريطاني قصر المندوب السامي عام 1922فزع زيتونة فلسطين الشاعر الراحل عبد الكريم الكرمي"أبو سلمى"وأنشد قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
جبل المكبر طال نومك فانتبه* قم واسمع التكبير والتهليلا
جبل المكبر لن تلين قناتنا***حتى نهدم فوقك الباستيلا
ونشر قصيدته تلك في مجلة الرسالة المصرية التي كان يرأس تحريرها الأديب عبد القادر المازني موقعة باسم "أبو سلمى"فاحتار المحتلون بمن يكون أبو سلمى هذا، فلا بد أن يكون واحدا من الشعراء الفحول الثلاثة: الكرمي، ابراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، فاختار عبد الكريم الكرمي القصيدة الموقف وخسر عمله في الاذاعة، أما أنا فقد أفزعتني الأمم المتحدة بعد حرب حزيران 1967 عندما قلصت مساحة الأرض المحيطة بالقصر، وأعادت السياج الى الداخل تاركة أكثر من ألف دونم للبناء الاستيطاني، ولم يراجعها أحد بذلك، وفزعت عندما بدأ استيطان قمة الجبل وسفوحه الغربية في العام 1972، واستولت المستوطنة على أراضي لمالكين من أبناء قريتي ومن قرية صورباهر المجاورة، لكنني فزعت أكثر في السنوات القليلة الماضية عندما شرعوا ببناء حيّ استيطاني على السفوح الشرقية للجبل، ومتداخلة في وسط بيوت عدد من أبناء قريتي، فشعرت أن نيران الاستيطان قد وصلت بيوتنا، لكنني فزعت الى درجة كبيرة عندما رأيت الدبابات الاسرائيلية تسيطر على الجبل في أول أيام حرب 1967.
ما علينا فـ"هي الأيام دول من سرته أيام ساءته أزمان"لكن ما أفزعني حقا هذه الأيام هو شعار"القدس عاصمة العشائر العربية" فهل ضاقت القدس بجلها وجلالها لتكون عاصمة للعشائر؟ وهل سنمحو تاريخ مدينة تصنع التاريخ نفسه؟ وأين سنضع حياة التمدن والحضارة التي بناها المقدسيون عبر التاريخ؟ وهل التمدن والعشائرية والعادات والتقاليد تأتي من خلال شعار نرفعه؟ وهل نتقي الله في مدينة هي عنوان عروبة فلسطين وقبلة المسلمين الأولى، ومكان حجيج المؤمنين من الديانات السماوية الأخرى؟
وكم كانت سعادتي عندما صدر كتاب الدكتور صبحي غوشة في الأسابيع القليلة الماضية عن"الحياة الشعبية في القدس في القرن العشرين" وكتاب "القدس والبنت الشلبية" للدكتورة عايدة النجار، ومع الجهد الكبير المبذول في الكتابين، الا أن هناك الكثير مما يمكن عمله وانجازه عن تراث المدينة وحضارتها، لكنه لا يجد من يتبن الفكرة قولا وعملا، وهناك الملايين التي تصرف باسم القدس، لكنها تتبخر عند الحديث عن تراث القدس وحضارتها والحراك الثقافي فيها، وكأننا دون تخطيط مسبق نريدها "عاصمة للعشائر"، فهل نحن على وعي وادراك لما جرى ويجري وسيجري في القدس؟ أم أننا سنحافظ على تراثنا العشائري ونغني:
بالله تصبو هالقهوه وزيدوها هيييييييييل
واسقوها للنشامى ع ظهور الخييييييييييل
ومع أهمية تراثنا العشائري، ودوره في بناء مجتمعاتنا، الا أنه لا يساوي شيئا أمام عظمة المدينة المجبول ترابها بدماء آبائنا وأجدادنا.
بيت شَعَر في حرم جامعة القدس
القدس عاصمة التمدن العربي-4-
بناء بيت شَعَر في حرم جامعة القدس المؤسسة التعليمية الأكبر في محافظة القدس، أمر غير مستغرب لو كان بمناسبة اقامة مهرجان أو أسبوع للتراث الشعبي في الجامعة، أما أن يقام في مؤتمر يسمى "مؤتمر العشائر الأول" ويشارك فيه حضور شخصيات سياسية مرموقة، وسفراء عرب، ليتناولوا كأس ماء أو عصير أو قطعة معجنات، فهذا ما أثار دهشتي وحيرتي أنا وآخرون، ومنهم أبناء عشائر مثلي، وما كان ينقص بيت الشَّعَر الا دلّة القهوة، والفراش العربي، وقطيع من الأغنام أمام البيت، كي أشعر أنني في مضارب إحدى العشائر البدوية، وليس في صرح تعليمي يشكل عنوانا لتقدم شعبنا وحبِّه للعلم حتى في أحلك مراحل حياته، فهل جاء ذلك من باب اعادة الجامعة الى حياة البدو الرحل، أم للإرتقاء بالعشائر الى مرحلة الجامعات، أم للخلط بين حياة التمدن وحياة البداوة، أم ماذا؟ وفي الواقع فانني لا أعرف المقصود، وأعتقد أن القائمين على"المؤتمر" لا يعلمون هم أيضا، لكن هذا ما اهتدوا اليه، وتتضارب الاجتهادات فيما بين الأصالة وما بعد الحداثة في الشعلة التي أقيمت أمام البناء الرئيس للجامعة وقبالة بيت الشَّعر، لندخل عالم العولمة من أوسع أبوابه، أو من أضيقها، فما عدت أعرف الأمور، خصوصا وأن القدس التي نتغنى باسمها ونحملها أوزارنا لا تزال تقبع تحت احتلال أهلك البشر والشجر والحجر، ويحاول قَتْلَ المدينة جغرافيا وتاريخيا وحضاريا، وهل جاء بناء بيت الشَّعَرِ لتذكيرنا بأنه بديل لبيوتنا التي تهدم في وطننا المحتل وجوهرته القدس الشريف، واعذرينا يا أمّ كامل الكرد فلو قدموا لك بيتا من الشّعَر بدل بيتك الذي طردك منه المستوطنون وسكنوه لكان أفضل لك من الخيمة التي قدمها الصليب الأحمر الدولي لك، فبيت الشّعَر دافئ شتاء وبارد صيفا، ولو أن المؤتمرين تنازلوا قليلا من عليائهم ومشوا حوالي الكيلو متر ليروا مضارب عشيرة الصرايعة في واد"أبوهندي"ليروا كيف ينغص الاحتلال حياتهم، ويسد عليهم المنافذ جميعها، ليجبرهم على الرحيل من منطقتهم التي تعيق التواصل ما بين مستوطنتي"معاليه أدوميم" و"نيئوت كيدار" عندها سيرون نموذجا للصمود البطولي للعشائر البدوية، معتمدين على أنفسهم وعلى قدراتهم المحدودة، ولا ينتظرون حمدا ولا شكورا لا من جامعة ولا من حكومة، وهم الذين يستحقون شعلة الصمود التعجيزي.
ومما يثير الدهشة هو بعض ما جاء في توصيات المؤتمر المعدة والمطبوعة سلفا، والتي وزعت على الحضور قبل دخولهم قاعة"المؤتمر"حيث جاء في البند رقم4:"تدوين التاريخ وثقافة العشائر العربية في القدس لادراجها كمنهاج يدرس للعشائر العربية"فهل التراث مجزأ بين فئات المجتمع، ولا يجوز لفئة أن تقترب من تراث فئات أخرى؟ وهل هناك منهاج دراسي خاص لأبناء العشائر، وآخر لأبناء المدن؟ وأين يقع تراث الريف؟ هل هو بين هذا وذاك؟ وهل هناك فهم لمفهوم العشيرة والفرق بين القبيلة والعشيرة والحامولة والعائلة؟ وهل نحن شعب واحد ذو تاريخ واحد وثقافة واحدة وهموم واحدة وطموحات واحدة؟ أم ماذا؟ وهل من صاغوا الأهداف يدركون دلالات الكلمات والمصطلحات، أم أن صياغتهم جاءت عفو الخاطر؟ واذا كان"المؤتمر"مؤتمرا حقا، فلماذا لم تراعَ فيه بدهيات المؤتمر، وهو ابداء وجهات النظر والنقاش حولها للخروج برأي واحد موحد؟ وهل يكفي القول بأن الأوراق المقدمة ستنشر لاحقا في كتاب؟ وهل انتبه القائمون على "المؤتمر" الى وجود أميين من المدعوين، وأن غالبية الحضور لا علاقة لهم بالكتب وبالقراءة؟
نسأل الله أن يحفظ القدس ومقدساتها، وأن يحفظ شعبنا، وأن يمكننا من حقنا في تقرير مصيرنا وإقامة دولتنا المستقلة بعاصمتها القدس الشريف، بعد كنس الاحتلال وكافة مخلفاته.