ملحمة مخيم جنين بوابةٌ لكرامة أمّة

الأستاذ المجاهد الأسير في سجن نفحة

إسلام صالح محمّد جرّار

 صمودٌ وعزّةٌ وإباء , تضحيةٌ وكرامةٌ وفداء ,إنّها كلماتٌ تتدافع إلى ذاكرتي , فتتخلّد عميقاً في نفسي , فيزداد رسوخها وعشقها في قلبي كلّما ذكرت تلك الملحمة البطولية التي قد تبدو أسطورة في سجل التّاريخ , ولكنّها حقيقة راسخة رسوخ الجبال , تلك الملحمة التي سطّرها الرّجال , الرّجال المجاهدون المناضلون العظام في مخيّم جنين , مخيّم البسالة والصّمود , يوم تعاهدوا على الموت في سبيل الله أو العيش بكرامة, والنيل من هذا العدوّ الغاصب !!

 هناك حقيقتان خالدتان لا بدّ من تسجيلهما اليوم , لتبقيا نبراساً وعبرة لكلّ الأحرار , فهما المعلمان اللذان يشكّلان المنارة على الطّريق , فيزداد بهاؤهما وإشراقهما كلما مرّت السّنون , واحتاج النّاس إلى مدد من التاريخ , ليُقَوّمَ الطّريق , ويعيد قيم المروءة السّامية إلى نصابها ومكانتها الصّحيحة.

 تسع سنوات مرّت , تتأكّد فيها تجلّيات مخيّم الصّمود والبطولة , مخيم جنين ,فيتعمّق الفهم جليّاً في النّفوس التّوّاقة للكرامة , وإلى سنن وقوانين التّغيير الرّبانيّة الخالدة التي تقودنا إلى تحقيق ما نصبو ونطمح إليه .

 قال - تعالى - في محكم كتابه : " إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ." صدق الله العظيم .

 الحقيقة الأولى التي نحن بصددها , أنّ الإرادة الجماعيّة التي تتشكّل وتتعمّق لتغدو مفهوماً أصيلا في الذّاكرة الجمعيّة لشعب من الشّعوب إذا ما تضافرت وترجمت إلى عمل دؤوب من بعد أن نقشت في خلد ذلك الجمع , لا بدّ أن يصنع المستحيل .

 هذه القناعة هي السّلاح الأقوى الذي تسلّح به العشرات والمئات من رجال مخيم جنين ومَن تعاضد وتناصر معهم , فخاضوا غمار البطولة والإرادة والعطاء عملاً لا قولاً وبكل التّفصيلات والمسببات التي تُصلّب الإرادة , من إيمان بالهدف وعقيدة صادقة وإدراك لمعاني المروءة ومناقب الأحرار , ملبين قول الحقّ - جلّ وعلا - : " انفروا خفافاً وثقالا , وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ."

 عند ذلك كان مخيّم جنين أول منطقة فلسطينية منذ عام الف وتسعمئة وثمانية وأربعين , تقف بكل إمكاناتها المتاحة – وإن قلّت ماديّاً - , إلا أنّها كانت تتسلّح بإرادة أبنائها المتضافرة , لتقول للمحتلّ لا , لن تدخل المخيّم إلا على جثثنا, معلية صوتها ولسان حالها وفعلها يقول : إن الكرامة والعزّة هي الحياة الحقيقية , وما عداها من عيش ذليل هو الموت الزّؤام الأكيد , ولقد كان لهؤلاء الأبطال ما أرادوا !!

 نعم دخل العدوّ أرض المخيّم لكن بعد أن أُثخن قتلا وجرحا , وذاق من كأس الموت الذي زرعه في شوارع وأزقّة المخيم الباسل , إنّه درس للأمّة قد كتب بمداد أحمر قانٍ , فاستقرّ وتخلّد في وجدان أمة العرب والمسلمين أن الإرادة الجماعية تعني النّصر الأكيد ,فهي صانعة المستحيل لا محالة ولو بعد حين بإذن الله العزيز الحكيم !! أوَ لسنا نرى شعوب أمتنا العربية والإسلامية تستخرج من وجدانها وعقلها الباطني ملحمة مخيم جنين التي عزّز مبادءَها أهل غزّة العزّة في حرب الفرقان الأخيرة قبل ما يزيد على عامين , وها هي اليوم تكتبها جموع الملايين من الأحرار في ميدان التّحرير وسط القاهرة , وفي ساحة الشّهداء في تونس الخضراء وغيرها من ميادين عواصم أمتنا العربية , وهي تقول للطّغاة إننا صامدون بإرادتنا المجتمعة , فتحدّوا صدور رجال وأشبال ونساء مخيم جنين الذين حرسوا وأحيوا من جديد مفاهيم العزّة والكرامة فإمّا الحريّة والانعتاق من الظّلم أو الموت في سبيل الله بعزّة وفخار !!!

 وأمّا الحقيقة الثّانية والمعلم الرّاسخ الذي نبحث عنه كلّنا جميعا في أيامنا هذه , وهو سبيل الوحدة من جديد , السبيل التي سلكها ومهّدها عظماء وشهداء مخيم جنين , وسطّروا كتابها بنور الحق المبين يوم توحّدوا بشفافيتهم ومصداقيتهم على خيار المقاومة , وكأنّهم يقولون لكل القوى المخلصة الصّادقة اليوم , أن السبيل الوحيد لإنهاء الانقسام , وإعادة اللحمة , ودحر العدو , وتحرير الأرض , هو التوحّد على أساس وخيار المقاومة. لقد كتبوا ذلك وخطوه بدمائهم جميعا عندما تآزرت أيديهم الضّاغطة على الزّناد , تاركة خلفها كل الاعتبارات الأخرى .

 لقد سالت دماء محمود أبو حلوة , ومحمود طوالبة , وزياد العامر , وأبو جندل , وأشرف أبو الهيجا, وأمجد ومحمّد الفايد , وشادي , والنوباني , وطه زبيدي , والقائمة طويلة , لقد سالت دماؤهم لتخلّد للأمة نموذجا حيّاً وعملياً لوحدة شعب فلسطين , وما أحوجنا اليوم إلى الاستماع لحديث يتلوه علينا أولئك العظام , وهم يخاطبوننا ويدعوننا أن نحافظ على خيار المقاومة أصلا عميقا في كياننا ووجداننا , وستأتي الأجيال القادمة متشرّبة بروح العزّة والكرامة , فتستردّ للأمة عافيتها !!

 نداء لكم يا أبناء هذا المخيم الصّامد: حافظوا على عهد المقاومة ,وإيّاكم وشباك المطبّعين مع عدوّكم الغاشم الّذي قتل وسفك دماء أغلى رجالكم !!!

 وكلمة أخيرة – ومعذرة إن أطلت عليكم - فبعد أن أكرمني الله بالجهاد مع كثير من أبناء هذا المخيم الطّاهر المعطاء , وتعززت في نفسي معاني العظمة والحريّة والإرادة , وتشرّفت بالجهاد مع ابن هذا المخيم المجاهد الشيخ جمال أبو الهيجا أبو عبد السّلام ,فتعلمت منه كيف تكون التّضحية والصّمود الذي يجدده اليوم شيخنا أبو عبد السّلام في سجنه الإنفرادي ليكون الأوفى لدماء الشّهداء ومبادئهم التي ماتوا عليها.

فمنذ ما يقارب ست سنوات من العزل , لم أسمع عنه إلا كل معاني الصّلابة والإباء والصّمود والمقاومة والثبات !!!

 لقد شرّفني الله بالعمل مع كثير من شهداء هذا المخيّم المعطاء الذين فازوا وسبقونا بالشهادة , وهم كثر , وأذكر منهم ممن كرمني الله بالقرب منهم , وعرفتهم , وجاهدت معهم , أذكر رفيق دربي , وحبيب قلبي نزيه أبو السّباع , والشهيد أبو مصعب , ومحمود موسى ونضال ,

وعماد النّشرتي , وإبراهيم الفايد , ومهند أبو الهيجا , ولن أنسى أبا صهيب نصر جرّار سيد شهداء القسّام , في محافظة جنين , وكان يربض في هذا المخيم الصّامد , يحمل بعض أشلاء جسده الطاهرة , لتأتي يوم القيامة شاهدة على صموده وجهاده مع إخوانه من رجال مخيم جنين الصّامد , وكل الشّهداء الأبرار , شهداء العزّة والحريّة والكرامة !!

 اللهم يا من بيده القلوب , ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك وحب الجهاد في سبيلك . وعليك يا علام االغيوب نعتمد في تصحيح قصدنا وإخلاص نوايانا ,فثبت قلوبنا وأقدامنا على درب الجهاد , وارزقنا شهادة ترضيك يا رب العالمين , وآخر دعوانا أن احمد لله رب العالمين .