إنها آفاق الثورة لا سقوف النخب

وائل أبو هلال

يُتداول في التدريب قصةٌ رمزيةٌ عن ضفدع وُضِع في إناء مملوء بالماء، ولما أغلق عليه الإناء بدأ يحاول جاهداً القفز ليخرج، لكنه مع كل قفزة كان يصطدم في غطاء (سقف) الإناء ... تكررت قفزاته فترة من الزمن إلى أن استسلم ورضي بواقعه الأليم وتأقلم معه. عند هذه اللحظة رفع الغطاء، لكن الضفدع المسكين المستكين لم يشعر بذلك، ولم ينتهز الفرصة ليخرج من حالته، والتي جاهد قبل فترة ليفعل.

يمكن استحضار هذه القصة بدلالاتها كل لحظة ونحن نراقب السلوك الإستجابي "للنخب" الحزبية والمنظمة إزاء الثورات الشعبية وتفاعلاتها، وتعاملهم مع الفرص العظيمة المتاحة من البيئة الثورية التي تسود العالم العربي، إذ يبدو واضحا لكل مراقب أنّ هذا السلوك ما زال محكوماً بعقلية ومفاهيم وثقافة (سقوف) ما قبل الثورة، وأن السقوف التي كرّستها الأنظمة وأجهزتها الأمنية رفعت ولم تعد موجودة، ولكن يبدوا أنهم مصرون على إبقاء هذه السقوف على أنفسهم بأنفسهم، لأنهم لم يتعودوا أن يعيشوا بلا سقوف، وواضح أيضاً أنهم - حتى الآن - لم يدركوا أنّ هناك آفاقاً رحبة فتحتها الثورات "الثورة" الشعبية الكبرى!!

إنّ من تعود عقوداً على العيش بثقافة الكبت والقهر والضوابط الأمنية و"حسن السلوك" و"بتصريح السفر" والتصريح للمظاهرة والمسيرة والاعتصام ... الخ. سيصعب عليه العيش في ظلّ الحرية بلا سقف، والتعامل مع ثقافة الإحساس بكرامة الذات والعزة التي تولدها أجواء الحرية..

الشعوب والجماهير في ميادين التحرير والحرية أزالت "السقوف" المنحطة و"الواطية" .. والنخب في غرفها المغلقة - والمتكلسة تَكلُّسَ النظمِ ذاتها - ما زالت مصرة على التفكير والعمل والعيش منحنية ومطأطأة لسقوف وهمية زالت وتحطمت.

وأزعم أنّه لو استجابت "الجماهير" "لحكمة" النخب التي طالما ادّعت الحكمة والمعرفة ونظّرت من علٍ لها لما حققت ما تحقق من إبداع ثوري رائع؛ ففي النموذج المصري سوّق علينا الحكماءُ "الحوار" مع النظام والوصول لحلول وسط، ولو اشترت الجماهير في الميدان هذه البضاعة لربما كانوا الآن تحت حكم الجنرال عمر سليمان، لأن الثقافة التي عاشها هؤلاء الحكماء عقوداً جعلت من لقاء عمر سليمان أو الجلوس معه سقفاً حلماً.

تبّاً له من حلم ذاك الذي لم يبتعد عن حقيقة بائسة!! وبقي قابعاً في حقب الخنوع المظلمة، ولذلك كان رد الجماهير التي تعيش - حقيقةً - أحلام الحرية: "أنا الشعب أنا الشعب .. لا أعرف المستحيلا"، وعزفوا في كل الميادين أهزوجة الثورة والثوّار الخالدة: "الشعب يريد إسقاط النظام"، كل النظام، لا حوار بعد الآن، فقد طفح الكيل!

ويحق لنا هنا أن نتخيّل ونتساءل: ترى لو رضيت الجماهير الحرّة بسقف النخب وثقافتها الحكيمة أن تمثِّل أحلامها، فهل كانوا سيتجرّؤون على مهاجمة القصر الرئاسي عند العصر؟ وهل سيطالبون بمحاكمة رموز الفساد الذين طالما حاكموا الأحرار بلا محاكم؟ هل سيدخل حبيب العادلي السجن الذي أدخل فيه خيرت الشاطر وأحرار الرأي الآخرين؟ هل سيمنع ناهبو قوت الشعب وثروات الوطن من السفر؟ هل سيعزل أحمد شفيق؟ هل ستهاجم مقرات أمن الدولة؟ هل سيحل جهاز أمن الدولة الذي كان يرعب الناس حتى في أحلامهم؟

في اليمن؛  تفجّرت "الحكمة اليمانية" هذه المرّة عند نخب اللقاء المشترك! وأعطوا للرئيس فرصة لنهاية العام، لأن الحلم بالنسبة لهم كان أن يوافق الرئيس على ذلك، بدعوى التدرّج، وإعطاء الفرصة للإصلاح، ... إلا أن جماهير "الميدان" بوضوح رؤيتها وأفق ثورتها الرحب ردّت وقالت كلمتها؛ حينما خاطبها أحد الثوّار متسائلاً: هل تمثلكم أحزاب المعارضة بمبادرتها؟ فرددت الملاين كلمتها الجماهيرية، لا! لاأحد يمثلنا إلا نحن. وكرروا الأهزوجة ذاتها: الشعب يريد إسقاط النظام!

وهكذا سقط سقف أخر من سقوف الحكمة، وانبلج أفق رحب من آفاق الحرية.

الأمثلة كثيرة، إذ أنّ السقوف التي حصرتنا تحتها أنظمة الجور والطغيان لا حصر لها؛ بيد أنّ الأحرار ما عادوا يرون في سمائهم سقفا، وها هم يطوفون في الآفاق الرحبة، ويتنقّلون من ميدان لميدان، يبثون الأمل في الشعوب المقهورة:

إذا الشعب يوما أراد الحياة           فلا بد أن يستجيب القدر

وبنفس القوّة؛ يتوّعدون الطغاة:

حذارِ؛ فتحت الرماد اللهيب          ومن يبذر الشوك يجن الجراح

ففي الأفق الرحب هول الظلام               وقصف الرعود وعصف الرياح

أيها النخب؛ ليس هذا غمطاً لحقكم، ولا نكرانا لجهادكم؛ فقد غرستم عشق الحرية في نفوس هؤلاء الثوّار الشباب جيلا بعد جيل، ومن معاناتكم استلهموا روح ثورتهم، بيد أنّ زمانهم غير زمانكم، ولغتهم غير لغتكم، وأدواتهم للتغيير غير أدواتكم، فلترقبوا هذا المشهد الثوريّ باعتزاز الوالد الذي يرى ولده يكبر أمامه، ولتستمروا في إلهام الأحرار مزيداً من الحماسة والثورة، ولتفسحوا المجال لهم كي يرسموا مستقبلنا الحرّ برؤيتهم، كما سقيتم غراس ثورتهم بمعاناتكم.

هذا للمخلصين منكم؛ أما المتسلقين فلا كلام معهم؛ إذ ستحرقهم ثورة الأحرار وسيرحلون كما رحل الطغاة تحت سياط الجماهير.

آخر الكلام: لكل زمان دولة ورجال.