ساعة في جابر بن حيان
أ.د/
جابر قميحةابتداء من الخمسينيات من القرن الماضي كان أمل المصريين ـــ وخصوصا المعلمين ــ أن يتعاقدوا أو يعاروا عن طريق الحكومة للعمل بإحدى الدول العربية ؛ وذلك لرفع مستواهم المادي والاجتماعي . فالمرتبات المصرية كانت ضئيلة للغاية ، وأذكر أنني بعد حصولي علر ليسانس دار العلوم سنة 1957 عينت معلما للغة العربية بمرتب شهري قدره 13 جنيها .
وطريقة الإعارة أن يتقدم المدرس بطلب عن طريق مدرسته ، ويتم الموافقة على طلبه مع تحديد الدولة المبعوث إليها ، وذلك اعتمادا على مسوغات موضوعية كتقديراته الفنية ، وإنتاجه ، وسلوكه في عمله . وبعد استيفائه كل مسوغاته لابد من حصوله على موافقة الأمن على إعارته ، وهو ما نسميه "تصريح الأمن" ، أو "تصريح العمل" ، وهي تسمية ملطفة من التسمية السابقة .
**********
وبعد هذا المدخل العام أتحدث عن حالتي الخاصة ، فيمايتعلق بالإعارة :
كنت مدرسا بالمرحلة الثانوية ، ووافقت جهات الاختصاص على إعارتي إلى الصومال . وبعد استيفائي كل مسوغاتي فوجئت بالأمن يمنعني من السفر ،أي يحرمني من الحصول على "تصريح العمل".
وفي العام الذي تلاه رشحت للإعارة إلى السودان ، وتكرر السيناريو نفسه : أستوفي كل المسوغات المطلوبة ، ثم يمنعني أمن الدولة من السفر .
وفي العام التالي رشحت للعمل في ليبيا السنوسية ، وتكرر السيناريو البغيض . وفي العام الذي تلاه رشحت للعمل في ليبياالقذافية ، ولم أسافر ؛ لأن نشامى الأمن ــ كالعادة ــ رفضوا منحي تصريح العمل .
هذا مالقيته من " أمن الدولة " بلا سبب . واستقرأت سجل حياتي فلم أجد فيه واقعة واحدة تخدش ولائي للوطن . لا .. لا .. هناك سبب " وجيه جدا " وهو أنني عضو في جماعة الإخوان المسلمين ، أو المحظورة (كما يطلقون عليها) .
وترتب على هذا المنع عدة نتائج . أهمها :
1 ــ أن كثيرين من زملائي المدرسين كانوا يتفادون الحديث إلي والجلوس معي ؛ حتى لا ألقي عليهم " شبهة " تحرمهم تصريح العمل إذا رشحوا للإعارة .
2 ــ أن في ذلك إساءة لسمعة مصر في الخارج ، بمقولة أن مصر تمنع أبناءها ــ لسبب أو لأسباب واهية ولا إنسانية ــ من السفر للبلاد العربية ، للنهوض بالتعليم فيها .
3 ــ ولا أخفي أنني عشت هذه السنوات الأربع أعاني ألما نفسيا عميقا ، لا لكسب فاتني ، ولكن لشعوري بأنني أعيش غريبا في وطني . وكانت أسرتي تشاركني هذا الشعور .
**********
وفي بداية السبعينيات ــ وكنت أعمل مدرسا أول للغة العربية بمدرسة الأورمان الثانوية للبنات بالجيزة ــ قلت لنفسي :فلأجرب حظي هذه المرة ، وتقدمت وأنا أكاد أعرف النتيجة مقدما ، ولكني كنت بارد الشعور هذه المرة بعدتجربة السنوات الأربع . وتذكرت قول المتنبي :
رماني الدهر بالأنصال حتى فؤادي في غشاء من نبــال
فكنت إذا أصابــتني سهام تكسرت النصال على النصال
وفوجئت في منتصف سبتمبر 1970 باستدعائي إلى المباحث العامة بشارع جابر بن حيان التي سميت فيما بعد (مباحث أمن الدولة) ، وذلك لمقابلة الضابط (إلهامي . س ) . واستقبلني الرجل استقبالا كريما . وشدعلى يدي وهو يقول :
ـــ مبروك .
ـــ الله يبارك فيك ، هل وافقتم على منحي تصريح العمل ؟
ـــ لا .. لأ .. بل ما يفوق ذلك بكثير.
ـــ عجيبة !!!!!
ـــ لاعجيبة ولا حاجة . شوف يا سيدي ، احنا عارفين أنك راجل عبقري وذكي ومخلص في عملك ؛ لذلك اخترناك دون غيرك لهذا العمل الإنساني .
ـــ خير إن شاء الله ؟!!
ـــ شوف يا سيدي ، أنت هتروح الكويت ، ستجد بعض زملائك المصريين بيشتموا الرئيس عبد الناصر أو نظام الحكم ، كل اللي هتعمله أنك سترسل لنا أسماءهم ؛ لنزيل متاعبهم دون أن يشعروا ، ولن يؤذي واحد منهم . وسترسل ما ستحصل عليه من بيانات ومعلومات على عنوان غير عنواني ، واسم غير اسمي ، هتعرفهم الآن . ولكن قبل كده هسمَّعك آخر رسالة وصلتنا ، وهي من الراجل بتاعنا في الكويت .
(وأخرج من درج مكتبه مظروفا ، واستأنف حديثه) :
ـــ نص الرسالة : السيد .... مرسله إليكم ... من إخوان " منية النصر دقهلية "
شكرا لكم مرتين إذ وافقتم على إعارتي ، وإذ أسندتم إلي المهمة الإنسانية إياها . وآخر الأخبار أن ثمانية من إخوان منية النصر شكلوا خلية لدراسة فكر الإخوان ، والترويج له ، ومهاجمة الرئيس ، ونظام حكمه . وهؤلاء الثمانية هم : ... و ... و ... الخ .
فما رأيك يا أستاذ جابر ؟ أعتقد أنك موافق .
ـــ طبعا لا ؛ لأني لا أصلح لهذه المهمة "الإنسانية" . إنها تحتاج لشخصيةااجتماعية ، كثيرة الاختلاط بالآخرين ، أما أنا فكل همي محصور في عملي وقراءاتي وكتابة مقالاتي .
ـــ إذن لن نوافق على إعارتك .
ـــ ليكن ؛ فأنا مؤمن بقوله تعالى " وفي السماء رزقكم وماتوعدون " الذاريات 22 ، ومؤمن بقول الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ " للرزق أسرع إلى أحدكم من أجله " .
وتركت السيد الضابط ، وأنا على يقين أن الرسالة التي قرأها عليَّ من وضعه وتزييفه وتزويره . وهذا اليقين مبني على ما يأتي :
1 ـــ أنني أعرف كل إخوان منية النصر معرفة شخصية ، وليس فيمن ذكرهم الضابط واحد منهم .
2 ـــ جاء فيما قرأه عبارة " ... قاموا بتشكيل خلية إخوانية ... " . والإخوان يستعملون مصطلح "أسرة " لا خلية .
**********
ومع ذلك كانت إرادة الله أقوى ، فتمكنت من الحصول على تصرح العمل . وغادرت مص إلى الكويت في 27 من سبتمبر 1970 . وفي اليوم التالي توفي جمال عبد الناصر .
ولكن السؤال المر الذي يطرح نفسه : كم من المواطنين رفض مثل هذا العرض الخسيس ؟ وكم من البيوت خربها أبطال مباحث أمن الدولة ؟ وكم من المواطنين الشرفاء أوذوا في أرزاقهم وأسرهم وسمعتهم على أيدي هؤلاء الأبطال ؟ .
" والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما عظيما " الأحزاب 58 .