صور ناطقة للتحوت والروابض 5 و 6

صور ناطقة للتحوت والروابض

أحمد الجدع

[5]

هذا ممن عرفتهم معرفة عابرة في دوحة قطر ، جاءني في مكتبي بدار الضياء في عمان عندما كان مقرها في عمارة البنك الأردني الكويتي ، وكان مرآب السيارات أسفل العمارة ، قال لي إنه لا يعرف أحداً غيري في عمان ، ويريد أن أدبر له موقفاً لسيارته لأنه يريد أن يذهب إلى سوريا ليقضي شهرين ثم يعود إلى عمان ليأخذها ويعود إلى قطر .

دبرت له موقفاً للسيارة في مرآب سيارات البنك ، فذهب ليأتي بها ، وبعد أن أوصلها عاد إلى دار الضياء ، وانتحى جانباً بأحد موظفيها وسلمه مفتاح سيارته (أمانة عنده) .

لم يكن واثقاً من أمانتي ، فسلم المفتاح لموظف لا يعرفه ولا يعرف أمانته ؟!

وسافر !

سألت عن الرجل ماذا فعل ، فقالوا لي : أحضر السيارة ووضع مفتاحها أمانة عند الموظف (الفلاني) .

أحضرته وسألته فأمّن على ذلك .

أصابتني الدهشة لهذا التصرف .

أنا أعتبر ذلك غباءً جرّه خوف هذا الرجل من أن أستعمل سيارته في غيابه ، ولم يفكر أن الموظف ممكن أن يفعل ذلك ، أو أن يذهب بها نهائياً أو ...

عجبت للأمر ، كيف يفكر مثل هذا الشخص !

مضت أيام واستقال الموظف .

أحضرته ، وطلبت منه أن يسلم المفتاح فأبى وقال : هذه أمانة ، لا أسلم المفتاح إلا لمن سلمني .

كان من الممكن أن أتركه ، ولكني أشفقت على صاحب السيارة أن يعود فلا يجد الموظف وقد ذهب بالمفتاح .

هددته فأبى ، فأحببت أن أرهبه فرفعت السماعة لأتصل بالشرطة فوافق على تسليم المفتاح ومضى .

بعد شهرين حضر السيد صاحب المفتاح ، سأل عن الموظف فأخبرته أنه استقال ومضى .

قال : هل تعرف عنوانه ... هاتفه ...

أظهرت الدهشة وقلت : ما لي ولعنوانه ... ما لي ولهاتفه وأنا لست بحاجة لذلك .

أخذ وجهه بالاصفرار وشفتاه بالارتجاف .

قلت : هل بينكما عمل ما ؟

قال : لا .

قلت : إذاً ما الذي يهمك إن كان حاضراً أو كان غائباً .

قال : أرجوك أبا حسان ، لقد وضعت مفتاح السيارة أمانة لديه .

قلت : وضعت مفتاح السيارة عنده وأنت لا تعرفه ؟ لعله أخذها ومضى ، اذهب وتفقد السيارة أولاً .

مضى مسرعاً ، ثم رجع وهو يحمد الله أنها في مكانها .

قال : وما العمل ؟

قلت : أبلغ الشرطة لعلهم أن يعثروا عليه ، ثم أردفت : هل رآك أحد وأنت تعطيه المفتاح ؟

قال : لا .

قلت : أعجب العجب أن تأمن من لا تعرفه وتترك من تعرفه !

قال : غلطة يا أبا حسان غلطة ! ألا تساعدني .

قلت : وأساعدك أيضاً !؟

أخذ يحوفل ويردد : ما العمل .. ما العمل ، وينظر إليّ وهو يستنجد بي ويقول : قل لي ماذا أفعل .

كان أحد الموظفين واقفاً يستمع ، وقد أشفق على الرجل أن ينهار ، فقال لي : أرجوك يا والدي أن تسلمه مفتاحه ، وكفاه هذا الدرس .. وليمض بسلام .

فتحت درج مكتبي وناولته مفتاحه ، ونظرت إليه بعين الغضب ، فلم يفعل شيئاً ولم ينبس ببنت شفة ، ومضى مسرعاً .

حسبنا الله .

==========

[6]

كان جاري في تجارتي ، وكنت أجلس إليه في أوقات فراغي ، وكان مسلماً كارهاً للإسلام ، لا همّ له إلا أن ينقب عن مشاكل المسلمين في مسيرتهم التاريخية الطويلة ، كان شديد الفرح عندما يعثر على كتاب يطعن في الإسلام والمسلمين ، فيشتريه ويقرؤه ، ويحث غيره على قراءته .

وكان له مجلس في يوم الجمعة في وقت الصلاة ، يجتمع إليه نفر ممن هم على رأيه المنحرف .

قال لي يوماً : أنا لا أجد في تاريخ المسلمين إلا النزاعات والجروب ، ثم يردف قائلاً في تشفٍّ ملحوظ : وأي تاريخ هذا الذي ثارت به الخلافات من عهد عثمان وعليّ ...

قلت له : هل عندك أكثر من ذلك ؟

قال : الكثير ... الكثير ...

قلت : أسرده حتى أتنور برأيك وعلمك .

لم يفعل !

قلت له : أنا أشعر أنك تحتفل احتفالاً كبيراً بالنصارى وتاريخهم ، أيخلو تاريخهم من الفتن والنزاعات ؟

لم يرد !

قلت له : أتعلم شيئاً عن حرب الوردتين بين الإنجليز والفرنسيين التي استمرت خمسة وسبعين عاماً ؟ أتدري شيئاً عن حرب المئة عام بينهما ؟

لم يقل شيئاً .

قلت له : أسمعت عن الحرب العالمية الأولى ، ألم تكن حرباً ضروساً بين النصارى ؟

ألم تسمع بالحرب العالمية الثانية التي حصدت أربعين مليوناً من النصارى وتركت أوروبا خراباً يباباً ؟

يا جاري ... يا جاري : هذا غيض من فيض الفتن بين النصارى أنفسهم ، فلماذا أنت كثير الطعن بالمسلمين الذين تنتمي إليهم ؟

لم يجب ولكنه قال مبتسماً : هل تصدق أن أبا هريرة حفظ عن رسول الله r أربعة آلاف حديث يحدث بها ويصدق المسلمون أنه حفظها ، هل يمكن لرجل أن يحفظ هذا الكم الهائل من الأحاديث ...

ثم أردف قائلاً : أنا لا أصدق ذلك ... فهل تصدقه أنت ؟

قلت نعم ، هل تعرف بلاداً اسمها باكستان ؟ هذه بلاد لا يتكلم أهلها العربية ، ومع ذلك فإن مئة ألف من أبنائها يحفظون القرآن الكريم في صدورهم ويتلونه بألسنتهم .

ثم قلت : هل تعرف شيئاً عن مراكز تحفيظ القرآن التي تخرج سنوياً آلافاً مؤلفة من حفظة القرآن الكريم ؟

هل سمعت عن المشروع الذي نفذه أحد مدرسي القرآن الكريم وهو يحفظ ناشئة المسلمين القرآن في شهرين ، وقد نجح في ذلك .

يا جاري : إن القرآن الكريم فيه مئة وأربع عشرة سورة ، وهي في مجموعها أضعاف ما يحفظ أبو هريرة من الأحاديث الشريفة .

صَمَتَ صمت القبور !

إن مثل هذا الرجل من مخلفات الهزائم التي أدت إلى اليأس وإلى الشك في المعتقدات الإسلامية والتاريخ الإسلامي ...

حاولت معه ، وبقي سادراً في غيه .

حسبنا الله .