قضي الأمر الذي فيه تستفتيان
د.عثمان قدري مكانسي
[email protected]
-
قد يُسجن البريء لأنه شريف ، ويَسرحُ المجرم ويمرح لأنه فاسد يبيع نفسه وينغمس
في المخازي والمغريات فهو خادم لهواه أولاً وخادم لأسياده الذين هم من طينته .
ويوسف عليه السلام أبى أن يفعل الفاحشة وتمسك بالفضيلة ، فشعرت النساء بصغارهنّ
أمامه ، ثم اتقدت في نفوسهن نار الكبر والعناد (
لئن لم يفعل ما آمره ليُسجنَنّ وليكوناً من الصاغرين ) ، وفضّل أن يُسجن
على الوقوع في المعصية ويرتع في الآثام. وهذا بعض الابتلاء في هذه الدنيا يمحّص
الله تعالى به الصالحين ، ويرفع درجاتهم في علّيين.
-
إن سيماء الصالحين تلازم أصحابها وتدل الناس عليهم . ويبقى الصالح صالحاً
والمحسن محسناً أينما كان وحيثما حلّ . في نعمة القصور ورغد العيش أو في ظلمة
السجن وغياهب المعتقلات ، يتعرف بها عليهم من يعيش معه ويلازمه . فهذان فتيان
دخلا السجن يوم دخله يوسف عليه السلام ( ودخل معه
السجنَ فتَيان ) تابَعاه ولاحظا تصرفاته ، فإذا هو أدب وأخلاق ، وعِلمٌ
وفهمٌ ، وذكاء وزكاء، ووقر في نفسيهما أن هذا الإنسان لم يجترم إثماً ، ولم
يرتكب خطأً وأنه دخل السجن بمكيدة ومكر حاكه من لا يخاف الله ليداري سوءته
ويخفي جُرمه. ومثل هذا الإنسان حريٌّ أن يُستفتى وأن يُستنصح . فلما رأى أحدهما
رؤيا أرّقته جاء يعرض رؤياه عليه ويستفتيه في تأويلها، وفعل الثاني مثله ،
فالأول رأى نفسه يسقي سيده الخمر ، ورأى الثاني أنه كان يحمل فوق رأسه خبزاً
يأكل الطير منه . ولن يجد صاحب الحاجة تفسيراً لما يؤرقه إلا عند من يثق بدينه
وخلقه وفهمه ( نبئنا بتأويله ، إنا نراك من
المحسنين ) . فلقد كان يوسف عليه السلام من سادة المحسنين وينتمي إلى
دوحة النبوة المشرق بنور الإيمان والإحسان، ( فهو
النبيُّ يوسف ابنُ النبيِّ يعقوبَ ابنِ النبيِّ إسحاقَ ابنِ النبيِّ إبراهيمَ
) عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه .
-
قرر أن يجيبهما – وهل يملك إلا أن يجيبهما؟، فمن لجأ إليك واستعان بك فمن
المروءة أن تكون عند حسن ظنه . ولكن لا بد أن يغتنم فرصة انتباههما إليه
ووقوفهما بين يديه فيدعوَهما إلى دين الحق ويخرجهما من ظلم الشرك وظلام الكفر
إلى العدل التوحيد ونور الإيمان ، فبدأ :
أولاً : بترسيخ الثقة التي أولياه إياها فأنبأهما
أنه يعلم بعض الأمور الغيبية التي
وهبه
الله تعالى علمها قبل أن تتحقق. ( لا يأتيكما طعام
تُرزقانه إلا نبأتكما
بتأويله قبل أن يأتيكما
) .
ثانياً
: وأن هذا العلم ما أوتيه إلا لأنه يؤمن بالله الواحد الأحد , وأهل التوحيد هم
أهل البصيرة الحقة . ( ذلكما مما علمني ربي) . فالله هاديهم ومعلمهم.
ثالثاً :
وعلّمنا يوسف - كما علم الفتيين - أن القدوة الحسنة سبيل إلى الهداية وهاد إلى
الطريق الحق وأن على الكبار أن يعلّموا الصغار دينهم، فالعلم في الصغر كالنقش في
الحجر ( واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب
) .
رابعاً :
وذكر أن فضل الله تعالى بالهداية مبذول للناس جميعاً ، فمن شكر ظفر (
ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ) .
خامساً : ثم
ساءلهما ليفكرا التفكير السليم ويجيبا الإجابة الصحيحة بعد تفكر وتدبر أن وجود
الآلهة المتعددة مجلبة لفساد الحياة ( لو كان فيهما
آلهة إلا الله لفسدتا ) فكل إله يريد أن يعلو على الآلهة الأخرى ويفرض ذاته
على الآخرين . ( ... ولعلا بعضهم على بعض ...
). وما وجود آلهة كثيرة إلا من التخرص وظن العقول القاصرة.
--
لا
يصاحب المسلم إلا مسلماً ولا يصادق المؤمن إلا المؤمن ، فالطيور على أشكالها تقع ،
والرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا بهذا إذ يقول : (
لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامَك إلا تقي ) وبهذا نفهم قول سيدنا يوسف
للفَتَيَيْن مرتين ( يا صاحِبَيِ السجن
-
والجميل في الدعوة والإجابة أن سيدنا يوسف عليه السلام كان بليغاً في الدعوة ثم
الإجابة . فلو أنه أجابهما عن سؤالهما أولاً لم يلتفتا إلى دعوته لهما إلى الإيمان
لأن حاجتهما إليه تكون قد انقضت . فقدم الدعوة على الجواب . ونراه أطال في الحديث
والتعليل وتقليب الوجوه كما ذكرت آنفاً فكان حديثه – في دعوته - أربع آيات آخرهنّ
أطول من الأوليات ، فقد كان فيها هدمٌ لمعتقدهم الشركي وتثبيتٌ للدين القيّم
الصحيح. أما الجواب عن رؤياهما فكان مبتسراً قصيراً فيه حسم وقضاء لا يحتمل
الاستئناف أو التطويل ،لقد كان جملتين قصيرتين ( أما
أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيًصلب فتأكل الطير من رأسه ) ثم حين
فاجأهما قائلاً ( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان)
. وكأنه يقول لهما : هذه هي الحقيقة ، فلا تراجعاني فيها . فهو لا يملك تغييرها .
-
ونجد ذكاء نبوياً عجيباً في الجواب. فهو – عليه الصلاة والسلام- يَعلمُ مَن ذكر
أنه سقى سيده خمراً ومَن قال : إن الطير تأكل خبزه فوق رأسه . فلم يشر للأول أنه
ناج ولم يشر للثاني أنه سيقتل. وإنما ذكر كلمة (
أحدكما ) فيعرف كل منهما تأويل رؤياه دون أن يشير يوسف إلى كل واحد منهما
بعينه، فقال جملة تدل على الحكمة والنباهة ( أما
أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيًصلب فتأكل الطير من رأسه ).
-
ونراه حين يبشر الأول يذكره بالفعل المبني للمعلوم (
فيسقي ربه خمراً ) أما الذي يقتل فقد ذكره بالفعل المبني للمجهول (
فيُصلب ) ولم يقل (
فيُقتل) فالقتل أشد وقعاً من الصلب الذي يكون
بعد القتل ولا يشعر المقتول به . ألم يؤته ربه سبحانه الحُكم والعلم وهو في بداية
صباه؟ ( ولمّا بلغ أشدّه آتيناه حُكماً وعلماً ..
) .
-
وتمتعْ معي بفاصلتي الآية الثامنة والثلاثين والآية الأربعين اللتين جاءتا في
مكانهما المناسب – وكل ما في القرآن جاء مناسباً لا يقوم غيرُه مكانَه - ، فقد كانت
الأولى ( ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون ) ، قد
جاءت تذكر بفضل الله تعالى على الأنبياء والناس أجمعين أنْ هداهم إلى الحق فوجب
شكره سبحانه . وكانت الثانية ( ولكنّ أكثر الناس لا
يعلمون ) تأمر بالإخلاص لله وحده في العبادة وتؤكد أن الإسلام دين الله
القيم الذي يرضاه الله تعالى للناس فضلّ أكثرُ الناس عنه ، ولم يعلموه فجهلوه .
-
وأخيراً رأى الأول أنه يعصر عنباً فيصير خمراً يسقي سيده منه ، - والخمر لا يُعصر-
إلا أنه مجاز مرسل علاقته باعتبار ما يكون ، وهذا التعبير غاية في الإيجاز والجمال
. وحين يكون الإنسان حياً – إن وَضع على رأسه خبزاً – أكل منه الطير إنْ أمِنَه ولم
يخفه . لكنّه حين يلقى حتفه موتاً أو صلباً ولا يُدفن أكلت منه الجوارح ولا تبالي .
والله أعلم