مفاهيمُ أسقطَتها الثّورةُ العربيّةُ الحديثةُ
عدنان برجي
مدير المركز الوطني للدراسات – بيروت/لبنان
ثمة مفاهيم أسقطتها الثورة العربية الحديثة التي بدأت في تونس وحققت أكبر إنجازها في مصر وتحاول الانجاز في أقطار عربية أخرى مع اختلاف الظروف والمعطيات بين دولة وأخرى.
أولى المفاهيم التي سقطت، هو مفهوم الدولة القطرية القائمة بذاتها بمعزل عن باقي أوطان الأمة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا. فحقيقة الأمر أن أغلب الدول العربية مرت بعد تحررها من الاستعمار في حقبتين:
الحقبة الأولى، وقد تبلورت إثر هزيمة العدوان الثلاثي على مصر وسطوع شمس المشروع القومي العربي الوحدوي، وفي أثنائها كان التغيير يتم تحت لافتة هذا المشروع بغض النظر عن مدى التزام أغلب رافعيه فعليا بمضمونه.
والحقبة الثانية تبلورت إثر توقيع اتفاقية كمب دافيد بين مصر والعدو الصهيوني، وفيها جاهرت غالبية الأنظمة بإقليميتها المفرطة، في ظل تراجع القوى القومية الشعبية العربية لقصور موضوعي أو تقصير ذاتي، ساعد على ذلك عدم وجود الاقليم - القاعدة كما يسميه عالم الاجتماع المعاصر الدكتور نديم البيطار.
في الحقبة الأولى رحل الاستعمار عن أغلب دول العالم الثالث، وتركزت أهداف النضال العربي ضد العدو الصهيوني، وفي سبيل ذلك خيضت حروب وتمت مواجهة اعتداءات. كما شهدت تلك الحقبة محاولات جادة لقيام مجتمع العدالة وتكافؤ الفرص، وكسر احتكار التعليم، وبناء اقتصاد وطني دعامته الأساس الصناعة والزراعة، مع سعي متواضع نحو السوق العربية المشتركة.
وكان من نتائج تلك الحقبة أن مصر ورغم خوضها حروبا عديدة وبناء السد العالي بدون مساعدة البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي فإنها لم تقع أسيرة الديون الخارجية كما هو حاصل اليوم ولم تضطر للرضوخ للقرار الأميركي بحجة الإفادة من المساعدة الأميركية التي تقررت لمصر بعد كامب دافيد والتي تقدر بـ 1.3 مليار دولار.
في الحقبة الثانية حلت مقولة "أنا أولا". والأنا هنا تعني دولة أو نظاما أو شخصا. وفي هذه الحقبة ازدادت الحواجز بين الدول العربية، وتراجعت أو جُمدّت التجارة البينية، وغابت أبسط مظاهر التضامن العربي مما سهّل على العدو الصهيوني التوسع والتمدد فكان احتلاله لبيروت عام 1982 ثم اعتداءاته المتواصلة على لبنان وعدوانه السافر عليه عام 2006 دليلا ساطعا على تفكك الرابطة العربية.
وبدل مواجهة هذا العدو أقله كواجب إنساني على ما يفعله بالمقدسات وبالفلسطينيين، فقد سعت أنظمة كثيرة علنا وسرا لخطب ود هذا العدو وقيام علاقات تطبيعية معه، فضلا عن التسليم بالولايات المتحدة الأميركية ليس كدولة عظمى لها تأثيرها، بل كقضاء وقدر. وبقدر ما ارتفعت عائدات الثروة النفطية في هذه الحقبة، انكفأت معادلات العدل الاجتماعي، فتصاعدت أرقام العاطلين عن العمل وبلغت مئات الآلاف في أوساط حملة الشهادات العليا، وتنامت الهوة بين فئة الأغنياء القليلة العدد وبين فئة الفقراء والمعدومين والتي تشكل غالبية سكان الدول العربية.
الفارق في الحقبتين واضح وجلي حتى لمن هم ليسوا من عداد القوميين العرب أو المتأثرين إيجابا بحقبة الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم. ففي معرض تقييمه للثورة الشعبية المصرية الحالية، يعترف الدكتور غسان سلامة وهو ليبرالي، أن جمال عبد الناصر أقام نظاما يعتمد على الاخلاق، فكانت مصر في ظل حكمه دولة رعاية اجتماعية ودولة مواجهة للعدو الصهيوني والاستعمار الغربي، وهو لم يتصرف على أساس أن الدولة ملكه، فمات وليس في جيبه غير راتبه، في حين أن نظام حسني مبارك باع القطاع العام وأملاك الدولة التي هي ملك الشعب، فتراجعت في عهده الصناعة كما الزراعة، وتم عمليا إنهاء دولة الرعاية الاجتماعية لصالح الرأسمالية المتوحشة.
ولم يكتف بتراكم ثروة خيالية له ولعائلته، بل سعى جاهدا إلى توريث ابنه، أي أنه تعامل مع الدولة وكأنها عقار يملكه وله حرية التصرف به، وكذلك فعل بن علي والقذافي وغيرهما.
هذا في الجانب الرسمي اما في الجانب الشعبي، ففي الحقبة الأولى وقف الناس مع عبد الناصر رغم الهزيمة القاسية في العام 1967 ويوم فارق الحياة بكتْه الملايين في ميدان التحرير وفي كل ميادين الأمة. أما في الحقبة الثانية فقد خرج الشعب العربي ولا يزال بشعار واحد: الشعب يريد إسقاط النظام.
إذا لقد أسقطت الثورة الشعبية العربية المستمرة مقولة الأنا أولا، والأنا تعني دولة أو نظاما أو شخصا كما سبق، لقد أسقط الشباب العربي عمليا ودون رفع لافتات، مقولة الدولة القطرية المنعزلة عن قضايا الأمة، فهذه الدولة لم تستطع حماية أمنها الوطني، أو أمنها الاجتماعي فضلا عن أمنها القومي. وهي لم تستطع بناء الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ولم تمنع الفساد أو تسعى للحد منه، بل هي شجعته وعممته، لذلك فإن المراقبين الموضوعيين، ومن غير دعاة القومية، يؤكدون عودة مصر إلى الحضن العربي، كذلك تونس لأن لا تنمية ولا تحرر ولا سيادة وطنية على أساس التجزئة، بغض النظر عن مضمون النظام وديمقراطيته.
المفهوم الثاني الذي سقط، هو المفهوم الذي حاول الكثيرون التنظير له خلال عقود، ألا وهو المفهوم الذي يقول بخنوع الشعب العربي لمنطق القوة والبطش والتسلط. إن الشجاعة التي واجه بها الشعب العربي أنظمة التسلط باتت محل إعجاب كل أحرار العالم، وتبين بالملموس أن هذا الشعب قد يصبر وقد يُمهل لكنه لا يُهمل. فمن ثورة تونس التي أشعلها البوعزيزي وهو يشعل النار في جسده الغض، إلى ثورة مصر التي برهنت عن وعي حضاري تم التعبير عنه بعدم حصول تعديات أو سرقات أو قيام عصابات رغم ابتعاد القوى الامنية عن الشارع، كذلك من خلال اللجان الشعبية المناطقية التي تشكلت فورا لتنظيم الحياة العامة في الأحياء وفي المناطق، إلى ثورة ليبيا واليمن والبحرين ومختلف البلاد العربية، وكلها تنم عن كسر عقدة الخوف والاستعداد للتضحية بالنفس في سبيل بناء وطن يستحق أبناءه.
المفهوم الثالث الذي سقط، هو المفهوم الذي حاول أصحابه تكرارا وصم الشباب العربي بالسلبية وببعده عن أي مفهوم قومي عربي، وبعدم استعداده للنضال الوطني، فإذ بهذا الشباب يخرج إلى الساحات بأقوى مما نزلت به جماهير ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وإذ بالذي يجري في تونس يترك آثاره المباشرة في القاهرة وعمان وصنعاء والمنامة وطرابلس الغرب، وكأن هذا الشباب ينفذ ما قاله جمال عبد الناصر "إن على الشباب العربي أن يبني نفسه فوق أرضه وبين جماهيره لا أن ينتظر قراره من القاهرة أو من أية عاصمة أخرى".
وهذا الشباب لم ينتظر قائدا تاريخيا ولا شخصية كاريزمية ليتبعها ولا حزبا ليرسم له خطوات النضال، بل خرج مستفيدا من ثورة الاتصالات الحديثة ومن مخزون حضاري مشترك عند غالبية الشعب العربي، هذا المخزون الذي يرفض الاستسلام ويرفض الخنوع والقهر ويرفض التبعية للاستعمار والصهيونية.
غدا سوف تكشف الأيام والأحداث سقوط مفاهيم ومقولات أخرى عديدة، فالأمة تكتب صفحات جديدة في تاريخها، وهذه الصفحات لن تقتصر آثارها على الأمة العربية بل ستكون كما سابقاتها في خدمة الانسانية جمعاء.