المقامة المصرية

عبد الرحيم صادقي

[email protected]

حدثنا هاشم الرفاعي قال: لقيتُ المُظفَّرَ قُطُز، بأرضٍ جُرُز. فسألني أيّ أرض الله هذه؟ قلتُ: أضلَّ الرجلُ أم ما به؟ أرضٌ وُلِّيتَ أمرها، أيخفى عليك سِرُّها؟ قال في عجب: أهذه مصر؟ فأيّ عصر؟ ما عهدتُ الأرض دهناء ولا خلاء، بل واحة غناء، دُورٌ فيحاء، وأسْيَاح وجِنان خضراء، وسَوْمٌ وبيع وشراء. قلتُ: دوام الحال من المحال، وقد صار الرجال غير الرجال، والأيام قُلَّبٌ والدهرُ دُوَل. قال: فأين ذهب الناس؟ أحلَّ بالبلد باس؟ قلت: الناس في الميدان، قد أسقطوا السلطان. قال: ومَن يكون؟ قلت: مبارك الخاتون. حكم ثلاثين لا أبا لك؟ ومَن للثلاثين غير مبارك؟ قال: وما سئم ولا ضجر؟ قلت: ولا مَلَّ ولا نَفَر. قال: وكم عُمر الفتى؟ وأين ومتى؟ قلت: هو فوق الثمانين، وآخِرُ السلاطين، بأرض الفراعين. قال: أمَا بلَغه قول زهير:

سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش        ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

قلت: ذاك زهير وهذا المبارك، وأين ابن أبي سلمى مِن والِينا الأسمى؟ ثم قلت: لكن ما الذي جاء بك إلى أرض الكنانة؟ قال: هُتافُ أقوام وأصوات رنانة، شقَّتِ السماء وكانت لها مكانة، فجئتُ أجْلُو الخبر اليقين. قلت: عَزَل الناس الوالي، وهبُّوا لطلب المعالي. وهو الآن في عُزلة، فَالْحَقْ بي أدُلّك على الطريق! قال: بل اسْبقني أنت وألْحَقُك، فإني أوَدُّ لقاءَ الرعية، ونفوسٍ أبيّة.

قال هاشم: فسِرتُ وحدي حتى بلغت شرم الشيخ، قاصدا نُزُلَ العجوز، جامعِ الحِلِيِّ والكنوز، مَن وَعَد بالمَنِّ والسَّلوى، وعصيرٍ وحلوى، فإذا بالفول وليس غير الفول، يُقيم أوْدَ الأكول، ويَصْحَبُ الكريمَ والجهول، والقانعَ والسَّؤول. ولما نزلتُ بجواره، أبى أن يُضَيِّفَني بداره. فقلت: شيمة العرب الكرم، والنَّالُ وحِفظُ الذِّمَم. لكنْ صفحٌ جميل، فأنت العزيز الذليل. ولقد قيل ارحموا عزيزَ قوم ذَلّ، وما أصابك يرفع العَذَل. فما كان والله خَطَر، على قلب بشر. ولَكَأنها ضربة قدر، حلَّت بمن غدر. قال مبارك: بل هي الخيانة، بأرض الكنانة. قلت: فمَن خانك؟ ومَن أهانك؟ قال: وطنٌ حَقود، وشعبٌ حَسود. قلت: على نفسها جَنَت براقش، وما نفعك الحَرافِش، وعلى الباغي تدور الدوائر.

قال: ومن أنت؟ وكيف تتجرأ على فخامتنا؟ قلت: أنا هاشم الرفاعي. قال: بَرِئْتَ من مصر وأهلِها، والآن تحاسبُنا؟ قلت: فأين ذلك؟ قال: ألستَ القائل:

لا مصر داري ولا هذي الرُّبى بلدي
أمـسـي  نـفاق ويومي ملؤه iiكذب
قـد أغـمـض القوم أجفانا iiمقرحة
شـعـب  تـلـذ لـه أسياف iiقاتله
وقـد  أراه وسـوط الـذل iiيـلهبه




إنـي  من الحق فيها قد نفضتُ iiيدي
فـمـا أؤمـل من خير صباح iiغدي
عـلـى  الهوان وإن كانوا ذوي عدد
حـمـرا  وتـطـرِبُه ترنيمة الصَّفد
فـلا يـحـس ولا يـرثي iiلمضطهد

قلت: إنما قُلتُه استنهاضا للهِمَّة، وإبراءً للذمَّة. وإنما هو كقول أخينا:

لهفي على العرب أمست من جمودهم        حتى الجمادات تشكو وهي في ضجر

أين  الجحاجحُ   ممن   ينتمون   إلى        ذؤابة  الشرف  الوضاح  من مُضر؟

وحاشايَ أن أقنط من رَوْحِ الله، أو أقول هلك الناس. كيف وأنا أتمثَّلُ قولَ القائل:

اليأس في ديننا كفر ومنقصة        لا ينبت اليأس قلب المؤمن الفهم

أمْ لم ترَنا نستنهض الناس قائلين:

هو الظلم يا ابن النيل بالنيل نازل        تمرُّ  بك  الأعوام والليل شامل

صباحُك  ديجور   وحقك   ضائع        وعهدُك مخفور فما أنت فاعل؟

وها هو الشعب قد فعل، وها هو الجَوْر قد بطل. قال: ما كان ظلما ولا كانت سنين، ولا يصبرُ المظلوم على الظلم ثلاثين. قلت: القويُّ من الشجر لا يُعجِّل بالثمر. وهل ترَكَ سيفُك من رأس؟ وهل فوق بأسِك بأس؟ وإني لأعجب كيف بقيتَ إلى يومِك الموعود هذا؟ لقد كنتَ أظلم من حيَّة، وأطغى من السَّيل. ألا ما أصدق القائل:

 لا تعجبن من هالكٍ كيف ثوى        بل فاعْجَبَن من سالمٍ كيف نجا

قال: وهل شكاني الشعب إليك؟ إسأل الناسَ إن كنت جاهلا. قلت: ما أثقلك وما أبرمَك! لقد ملَّ الناس صُحبتك، وأنت جاثمٌ على القلوب تخطب في الناس. "فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث"، أما علمت أنها في الثقلاء نزلت؟ قال: أوَكنتُ ثقيلا؟ قلت: حاشاك، بل أنت الخفيف الظريف، الورِع العفيف. اسمعْ أخاً لنا يُجيبك:

أنت   يا   هذا ثقيل        وثقيل        وثقيل

أنت في المنظر إنسا        ن وفي الميزان فيل

قال أبَلغ قنطُ الناس هذا المبلغ؟ ألا ما أضيق صدورَكم!

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها        ولكن أحلام الرجال تضيق

قلتُ: والله لو حال الحَوْل، بَعدَهُ حَوْل وحَول، وطال القول، يَردفُه قولٌ وقول، وفطن أبو الهَول، لبقيتَ كغُول أثقلَهُ الفُول. لقد غششتَ رعيتك، وخفرتَ ذِمتك، وسمتَ الناسَ الهوان، وأطلقت لزبانيتك العنان، والظلم مؤذن بخراب العمران. وحين قيل لكَ ارحلْ، أبَيتَ إلا الجدل. أفتُراك خفيفٌ أم ثقيل؟ فإنَّا وإياك كما قال الشاعر:

يـا  مبرماً أهدى iiجَملْ
قـال  ومـا iiأوقارها؟
قـال  ومـن iiيقودها؟
قـال  ومـن iiيسوقها؟
قـال  ومـا iiلـباسهم؟
قـال  ومـا iiسلاحهم؟
قـال  عـبيد لي iiإذن؟
قـال  بـهـذا iiفاكتبوا
قـلـت له ألفي iiسجل
قـال وقـد iiأضجرتكم
قـال  وقـد iiأبـرمتكم
قـال وقـد iiأثـقـلتكم
قـال  فـإنـي iiراحل
يـا كوكب الشؤم iiومن
يـا جـبـلا من iiجبل














خذْ وانصرفْ ألفي جمل
قـلـت  زبيب iiوعسل
قـلـت  لـه ألفا iiرجل
قـلـت  لـه ألفا iiبطل
قـلـت حـلـي iiوحلل
قـلـت  سيوف  iiوأسَل
قـلـت  نـعم ثم iiخوَل
إذن عـلـيكم لي iiسجل
فـاضمن لنا أن iiترتحل
قـلـت أجـل ثم iiأجل
قـلـت  له الأمر iiجلل
قـلـت لـه فوق iiالثقل
قـلت  العجل ثم iiالعجل
أربى  على نحس iiزحل
فـي  جـبل فوق iiجبل

قال مبارك: ليس الناس على قلب واحد. قلت: صدقت، فأشِرْ! ودَعْكَ من مدَّاحٍ أَشِر! قال: انظرْ أهلَ الفن! قلتُ: بأرضك فنانان، كلاهما "إمام"، جمعَهُما الفن وفرَّقهما الحق. أمّا "عادل" فيميل مع كل ريح، وأما "الشيخ" فصادقٌ صريح. وغيرهما أهلُ غِناء وطرب، وهُم بين مدح وعتاب، والمداحون يُحْثى في وجوههم التراب. ثم سألت أحد شبان الثورة فقال: أتسألُني عن حسني مبارك أم حسين باراك؟ ففيهما شيء من شبَه، لا يُخطِئه من نَبِه. قلتُ: حُسْنٌ وبَركة. قال: أو لعله نحسٌ وكَرْب، ليس غير لفظٍ قُلِب. أو لعلك يا مبارك بركتَ على العرش ولم تَقُمْ، فقيل حَسُن البُرُوك إذا لم يَدُم. أمَّا شبيهُك إيهود باراك، فتوَلَّى وولَّى وأنت بلا حَراك. فهلاَّ اقتديتَ بصاحبك إذ برَك ثم ترَك؟

قال هاشم ثم أنشأت أقول::

هوى غير مأسوف عليه فلم يدع        بأي    فؤاد    للترحم    موضعا

وكان  سقوط الفرد مصدر فرحة        فكيف يكون الأمر لو سقطوا معا؟

قال: وبينا نحن على حالنا تلك إذ أقبل المظفر قُطز، فقال: سلامٌ على الحمإ المسنون، خليفةِ العظيمِ أخناتون. قال مبارك: من أنت وما وراءك؟ قال: رُدّ السلامَ ويحك؟ أنا قطز، جئتُ أنصرُ الحق. قال: ومالك ولنا؟ قد حكمتَ دهرا ومضى زمانُك. قال قطز: نُصرَة الحق شرف، ونُصرة الباطل سرف. قال مبارك: وهل كانت رعيتُنا كرعيتك، فنكون مثلك؟ فها هُم العسكرُ قد عصَوا أمرَنا، وارتضَوْا غيرَنا. فعلامَ العِوَل؟ ومنهم العَضَل؟ قال قطز: في أرضك خير الأجْناد، لو وَجدوا شِهامَ القُواد. وانظرْ صنيعَهم في"بارليف"، حين عزَّ النصير والحليف. ولقد أبْلَوا البلاءَ الحَسن في جالوت، فهل كنتُ أنا المَلك طالوت؟ أَصلِحْ نفسَك يَصلحْ لك الناس!

قال: لكنكَ وجدتَ العونَ من "عبدِ السلام"، قال قطز: وأنت منعت الشيوخ من الكلام.

قال هاشم: فصحبتُ قطز ومضيْنا، وإذا بالرصافي مقبلاً يقول:

 يا ملوك الأنام هلا اعتبرتم        بملوك تجور في الأفعال

 فاتركوا الناس مطلقين وإلا        عشتم  موثقين بالأوحال