وغِيضَ الماء

من وحي مأساة جُدَّة

رامي بن أحمد ذو الغنى

عِبرةٌ وعِظةٌ سطَّرها الربُّ جلَّ جلالُه في كتابه المُبين، {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ويَحِقَّ القَولُ عَلى الكَافِرِين}، فمَن اهتَدى فلنفسِه، ومَن ضَلَّ فعليها، وبُعدًا للقَوم الظالمين.

قبلَ آلاف السِّنين استكبرَ في الأرض قومُ نوح، وعتَوا عن أمر ربِّهم، وصَدَفوا عن دينه، ولم ينحَز إلى الحقِّ سوى ثُلَّةٍ قليلةٍ مستضعَفةٍ من أهل الإيمان، ظلَّت مُستمسكةً به صابرةً على الأذى في سبيله، ما نكصَت على أعقابها أو تقهقرَت تحت وطأة الغُربَة المُضْنية، يَحدوها يقينٌ راسخٌ، ويستحثُّها وَعدٌ صادقٌ أن العاقبةَ للمتَّقين؛ لتَثبُتَ على أمر ربِّها، وتستعذبَ العذابَ من أجل دينها، مُؤثِرةً الباقيةَ على الفانية.

لم يغلبها سُلطانُ الكثرة، ولم يوهِن عَزمَها طولُ الطريق؛ ألفُ سنة إلا خمسون عامًا، ما ازدادَ المستكبرونَ فيها إلا كُفرا، وما ازدادَتِ الفئةُ المؤمنةُ إلا صَبرا، وليس بعد الصَّبر إلا النصر، وليس بعد الكَرْب إلا الفَرَج، {واللَّهُ غَالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون}.

بأمر الله فارَ التنُّور، وأُتِـيَ الذين كفَروا من حيثُ لم يحتَسبوا، وفُتحَتْ أبوابُ السماء بماءٍ مُنهَمِر، وفُجِّرَتِ الأرضُ عيونًا، والتقى الماءُ على أمرٍ قد قُدِر، فعَلا حتى غمَرَ الجبالَ الشاهِقات، وأغرَقَ كلَّ من اعتصَمَ في ذُراها ممَّن تَعالى وتجبَّر، وأدبَرَ واستكبَر، وحادَّ الله ورسولَه.

وَسْطَ الأمواج المتلاطِمَة كانت سفينةُ النجاة تَمْخُرُ العُبابَ باسم مَليكها، الخوفُ والهلعُ والهلاكُ من حولها، والأمنُ والسلامةُ والسكينةُ تغشى الموحِّدين فيها.

وكيف لا يأمنُ من استقامَ على أمر ربِّه، واهتدى بهَدي نبيِّه؟

وكيف لا ينجو من آمنَ واتَّقى، وآثرَ الآخِرةَ على الأولى؟

أولئك أولياءُ الله، تجري بهم الفُلك إلى حيثُ لا يعلمون، لا يملكون لأنفُسهم نفعًا ولا ضَرًّا، تتقاذَفُهم الأمواجُ وهم مُستسلمون! يحفَظُهم الله عند البَلاء كما حَفظوه وقتَ الرَّخاء، وتلك سنَّةُ الله في عباده، ولن تجدَ لسنَّته تبديلا، ولن تجدَ لسنَّته تَحويلا.

ودام الطُّوفانُ ما شاء الله له أن يدوم؛ حتى طُهِّرَتِ الأرضُ من رِجْس الوثنيَّة، وأكدار الجاهليَّة، فاندثَرَت معالمُ الشِّرك، وانمَحَت رسومُ الكُفر، ونجَّى الله المسلمينَ، آمنينَ بفضله لم يمسَسهُم سوء، وأصلحَ لهم المستقرَّ والمأوى، فأوحى للأرض: أنِ ابلَعي ماءَك، وللسماء: أنْ أقلِعي، واستَوَت سفينةُ التوحيد على الجُودِيِّ باسم ربِّها، ومَكَّنَ الرَّحيمُ لأهلها، فأورثَهُمُ الأرضَ ليَعمُروها بالكلمة الطيِّبة التي خُلِقوا لأجلها ( لا إله إلا الله ) وقيل بُعدًا للقوم الظالمين.

لقد غِيضَ ذلك الماءُ الذي ارتفعَ فوق رؤوس الجبال، وأهلكَ الله به المستكبرينَ نُصرةً للمُستضعَفين من أهل الإيمان، وما غاضَ إلا بأمر ربِّه، ولم يكن ثمَّةَ أسبابٌ لغَيضِه، وقَنَواتٌ لتَصريفِه، ولكنَّ الله أمرَ، و{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

فإذا ما فاضَ الماءُ ولم يَغِضْ، وأهلكَ الحَرْثَ والنَّسْل، فلنُحاسِبْ أنفُسَنا ولنَصْدُقْ في تَلاوُمنا، ولنَقُل كما قال أصحابُ الجنَّة: {يَا وَيْلَنَا إنَّا كُنَّا طَاغِين}، ولنَحْذَر من تَبرئة نُفوسِنا والاكتفاءِ بنَبْذ الآخرين بالمجرمين والسارقين والمقصِّرين، فالأرضُ هي الأرض طيِّعةٌ مأمورَة، والماءُ هو الماء يُصرِّفُه خالقُه كيف يشاء، ويجعَلُ فيه حياةَ أقوامٍ وهلاكَ آخرين، والله هو الله حَكَمٌ عَدْلٌ، ينصُرُ من نصَرَهُ، ويحفَظُ من حَفِظَه، يغفرُ الذَّنب، ويأخذُ بالذَّنب، يُهلِكُ الصالحين إن لم يكونوا مُصلِحين؛ إذا كَثُرَ الخَبَث.

فاللهم ربَّنا آثِرنا ولا تُؤثِر علينا..

وانصُرنا ولا تَنصُر علينا..

وقِنا شُرورَ أنفُسِنا وسيِّئاتِ أعمالنا، من قبلِ أن تقيَنا شُرورَ الظالمينَ من حولنا..

ولا تُسلِّطْ علينا مَن لا يخافُك، ولا يَرحَمُنا..

أنتَ وليُّنا، لا إله إلا أنت،

سبحانك.. سبحانك.. سبحانك.