الرخيص والنفيس

ناديا سلطان

تقييم الأشياء بين الرخيص والنفيس أمر  نسبي وليس مطلق، وما هو نفيس لدى البعض في زمان ما ومكان ما ، قد يكون رخيصا عند البعض الآخر في ظروف وأمكنة مغايرة  .

  والمطلق في المعجم الفلسفي هو التام أو الكامل المتعري عن كل قيد أو حصر أو استثناء أو شرط والخالص من كل تعيين أو تحديد ومتجاوز للزمان والمكان- حتى وإن تجلى فيهما-

 والمطلق يتسم بالثبات والعالمية فهو لا يرتبط بأرض معينة ولا بشعب معين ولا بظروف أو ملابسات معينة

 وقد عرف هيجل المطلق بأنه الروح (وبالألمانية جايست) ويقال  روح العصر أي جوهر العصر ومطلقه وروح الأمة جوهرها ومطلقها

و السياق القرآني يعبر عن المطلق الكامل والتام والأعظم شأنا واعتبارا ب  (روح الله)

وفي سورة يوسف جاء على لسان النبي يعقوب " ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"87

 وسورة الحجر تقدم التقييم الإلهي للإنسان منذ أن أعلن الخالق عنه في بداية خلق وتكوين ووجود الإنسان الأول

وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون ، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين28-29

والتعبير القرآني في إضافة  ياء الانتماء إلى لفظة ( روح )وتعبير( قعوا) (ساجدين ) كل ذلك فيه تعزيز لمكانة هذا المخلوق الذي كرمه الله حتى  أمرت جنود الله بالسجود له تعظيما وتكريما

ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" 70-17

وهكذا فالاعتبار الإسلامي يجعل من الإنسان قيمة مطلقة من حيث التقييم فهو الأغلى وهو الأعظم شأنا

والإنسان اليوم (بشكل عام) أصبح السلعة الأكثر رخصا في السوق العالمية حيث المال هو القيمة الأغلى باعتباره روح العصر وروح الأمم ، والتنين الصيني يتطاول ماردا يطوق عنق العالم لرخص ثمنه

  والإنسان العربي( خاصة) أضحت لديه اللقمة الرخيصة هاجسا ،والمأوى الكريم حلما، والعلم النافع سرابا ، والعمل الشريف صراعا داميا  ، والحق لصاحب الحق مطلبا مستحيلا ...  بل حتى الحق في الحياة  أصبح مشروعا قابلا للتأجيل  ينتظر التوقيع في معادلة تجعل من الإنسان العربي السلعة العالمية الأكثر رخصا على الإطلاق.

ومنظمة العفو الدولية تستجدي حق الحياة ل مليون ونصف فلسطيني محاصر في غزة بعد أن أسفرت عملية( الرصاص المصبوب) عن قتل 1400 شخص وجرح الآلاف . والكفاح للبقاء قضية مستعصية لمن كان محظوظ ف لم يدركه (الرصاص الصبوب )، واستخدام المولدات الصينية الرخيصة الثمن كحل لمشكلة انقطاع التيار الكهربائي في القطاع أودت بحياة أكثر من مائة فلسطيني خلال ثمانية عشر 18 شهرا بسبب حرائق وانبعاثات من هذه المولدات و(نسيم أبو جامع) فقد ثلاثة من أبنائه(فقط)!! في حريق نشب بسبب هذه المولدات وأصيب الثلاثة الباقين بحروق خطيرة.

والتقارير الطبية أفادت أن الملابس الصينية البخسة الثمن كحل وحيد (لستر العورة)تسببت في أمراض جلدية خطيرة وسرطانات خبيثة.

والفساد والرشوة والمحسوبيات على السلطة أضاعت الحقوق وسلبت القيم و الأخلاق فتعاظم اليأس والإحباط .  

وحاويات القمامة كموائد عامرة للفقراء أصبحت مشهدا مألوفا .

و المقابر مأوى يزاحم فيه الأحياء مهجع  الأموات، أضحى نظاما دخل تخطيط المدينة .

وهكذا أصبح الرخص( روح الأمة)  ، فينشأ الإنسان  وهو يتجرع هذا المفهوم قطرات ما يلبث أن يبدأ في ارتشافها  رضيعا مع لبن أمه لتتوالى جرعات متزايدة في  رحلة القهر والذل والظلم والقمع والجوع

والتباين شاسع بين الاعتبار القرآني لهذا (الخليفة)(المكرّم) وبين ما انتهى إليه  في بلاد من المفترض أن تحمل في معظمها الانتماء لهذا المفهوم.

 والإنسان العربي ينشأ ويترعرع بل ويلقن على أنه السلعة الأرخص من أجهزة الإعلام ، ومن معلم المدرسة ،ومن قاضي المحكمة ومن موظف الحكومة ، ومن إخوته في العروبة.

و محمد بن عزيزي  تعايش مع هذا  الرخص السائد طوال الست وعشرون عاما من ربيعه الزائل، و قصته بكل حذافيرها نموذج متكامل لحال الملايين من الشباب الذي يتعاطى  اليأس والإحباط زادا يوميا لابديل عنه .. حتى الانتهاء إلى مصير  يليق بهذه الرحلة البائسة .

 وتحكي القصة أن بن عزيزي  لم يكمل تعليمه ولم يجد وسيلة كي يعيل أسرته سوى بيع الخضار، ولكنه ظل سبع سنوات يعاني من قهر أعوان البلدية بقيادة الشرطية فادية حمدي ومساعدها صابر اللذان كانا يصادران بضاعته مرتين في الأسبوع .  وفي يوم الحادث كان محمد قد استدان مبلغ 130 يورو ليشتري بضاعته عندما حضرت الشرطية فادية ومساعدها وصادرت البضاعة بموجب محضر بلدي .  حين حاول محمد الحديث صفعته فادية على وجهه(لوقاحته) بينما سدد له صابر اللكمات حتى تفجر الدم من أنفه ..فصعد إلى مكتب الكاتب العام للبلدية ليتقدم بشكوى لكنه رد عليه قائلا: ما تكلمنيش يا مسخ!!   ثم رفض المحافظ استقباله أو سماعه فخرج إلى الشارع وهو يصرخ من شدة الغيظ ثم أحضر البترول الأزرق وأضرم في نفسه النار وفي الوقت الذي كان فيه يشوى حيا كان حارس المحافظة يضحك على مشهده!! ،حتى أنبوب الإطفاء في مقر المحافظة كان فارغا فلم يتمكن أحد من إنقاذه في الوقت المناسب ، فقضى وهو في ميعة الصبا وعنفوان الشباب.

ومحمد حسني مبارك عن عمر يقارب القرن من الزمن ، و(سواد زائف)لمشيب العقد الثامن ،  وأوزار ثلاثين عاما من حكم فاسد  ،  وجعبة منتفخة  ب سبعين مليار من الدولارات ،سرقت من ثمانين مليون من شعبه.... لازال متشبثا بالحياة، يدغدغه حلم وردي عذب " يحسب فيه ان ماله قد أخلده" يأبى  الانسحاب من الموقف ، بل ويخطط  للذهاب إلى ألمانيا "لمعالجة طويلة الأمد"(حسب المجلة الألمانية دير شبيجل).

  بالأمس محمد حسني مبارك كان رئيسا للدولة الأعظم شأنا بين الدول العربية،

 و اليوم وهو ينوء بحمل مفاتيح قصره الذي يضاهي قصور( الإرميتاج )فخامة ، وما اكتسب من مليارات (السحت )، يجعله في معادلة عكسية، الأرخص مخلوقا على الإطلاق وهو  يتعرض لأبشع النعوت وأقذع الشتائم بل وإلى الرمي بالنعال..  و إلى  مصير حتمي  "في الحطمة"، فطول الأجل (ليس بمزحزحه من العذاب) .

وبالأمس محمد بن عزيزي كان الفتى  بائع الخضار الفقير والرخيص... المغمور والمجهول ، حتى  أضرم ثورة التمرد وأسقط  النظام وأرغم الحاكم على الفرار مع (خضراء الدمن )بجيوب (ملأى بالذهب)

واليوم تعلن الحكومة الفرنسية  عن إقامة تمثال تذكاري ل (بن عزيزي) في باريس كما أعلن عمدتها (برتران ديلانو )عن إطلاق اسم الشاب على أحد ميادين العاصمة الفرنسية ، والإعلام الكندي بث مقابلة بين محطة الب ب س البريطانية وبين أسرته ،باعتباره الأول شأنا ، والأرفع قيمة  و كونه رمزا  للثورة على الظلم  الفساد ..أما صورته على حائط  الدار  فقد كان تلخص كل معاني الحرية ، في عيون تطل منها روح أبية ،و عنفوان لا يعرف الخنوع.

والله سبحانه قد( حرم قتل النفس إلا بالحق )في مفهوم إسلامي مطلق أن "الروح" هي هبة الله وعطيته .  

ولكن المواطن المصري اليوم يتعرض للقتل بطريقة ممعنة في الرخص إما دهسا بدبابات السلطة، بأيدي إخوانه في العروبة من الشرطة المستخفين في ملابس مدنية ...  أو بشكل غير مباشر عندما يرغم على الموت كحل وحيد ليس له  بديل ، عندما يسلخ سنين العمر في عمليات غسيل دماغي أن وجوده هو (القيمة الأرخص على الإطلاق)

والنبي صلوات الله عليه قد استعاذ من( الكفر ومن الفقر) واستعاذ من(غلبة الدين ومن قهر الرجال)

وعن  الصحابي أبو ذر الغفاري ( عجبت لمسلم لا يجد قوت يومه ولا يخرج على الناس شاهرا سيفه)

ومن كان له عنفوان  بن عزيزي ويمنع  منه السيف لن يجد إلا جسدا مشتعلا ، يخرج به على الناس كي يعلن التمرد .