سياقات ظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
د
. حمزة رستناوي*السياق الأول:
دعاوى الإعجاز العلمي في القرآن الكريم في كتب دينية أخرى, و دعاوى العلمية التي ينسبها أتباع عقيدة معينة إلى عقيدتهم دون غيرها, فثمة حالة قانونية – لا تخص الإسلام فقط - تربط العلاقة بين إحدى طرائق تشكّل العقيدة و العلم , هي استناد العقيدة في شرعيتها إلى العلم , بدلا ً من استنادها إلى نفسها كإجابة عن أسئلة ميتافيزيقية و تلبية لحاجات نفسية و صلاحيات اجتماعية مشروعة.
*
السياق الثاني:
في العصور القديمة و الوسطى كان الدين يلعب دورا ً مهيمنا ً في البناء المعرفي للإنسان , و يلعب دورا ً مهيمنا ً اجتماعيا و سياسيا, فمعظم الدول التي قامت آنذاك ذات مشروعية دينية قبل تبلور مفهوم الدولة القومية و الدولة الديمقراطية الحديثة, و قد التبس مفهوم العلم آنذاك بعلوم الدين و الفلسفة, و لم تكن العلوم قد أسِّسَتْ كحقول منفصلة محكومة بالمنهج العلمي التجريبي.
في تلك العصور كان الدين مهيمنا على العلم , و لم يحقق العلم – لظروف موضوعية- حضورا ً قويا ً وازنا ً , يستلزم تغيير في أنماط عيش البشر و العلاقات المجتمع , و لذلك لم يكن ثمة مبرر للتأكيد على الإعجاز العلمي لا في القرآن و لا في غيره من الكتب المقدسة.
و لكن مع تقدّم العلم و المنهج العلمي و التطور النوعي الذي حدث في مسيرة العلم ابتداء من القرن السابع عشر في أوربا و انتشر عبر العالم , وجدت الأديان نفسها في وضع لم تعتد عليه , و بدا كأن العلم يسحب من تحتها البساط و يتدخّل في قضايا كانت من صلب اهتماماتها كأصل الإنسان و نشوء الكون و المرويات التاريخية ..الخ , و حيال ذلك نجد ثلاثة مواقف تبنتها الأديان :
الموقف الأول: رفض الدين للمعرفة العلمية و محاربتها و اتهام أصحابها بالكفر و الهرطقة, كتكفير من قال بكروية الأرض و دورانها, أو الموقف من الدار وانيّة..الخ.
الموقف الثاني: المزاودة على العلم, و الادعاء بأن ما يقدّمه العلم من حقائق موجود بشكل ضمني في الكتب المقدّسة , و لم يشأ الله إظهاره للمؤمنين كونهم لم يكونوا مهيئيّن لذلك, و الآن جاء الوقت المناسب لإظهار الإعجاز العلمي في الكتب المقدّسة.الموقف الثالث: و هو الفصل بين مشروعية و حقل الدين, و مشروعية و حقل العلم,
و هذا يستدعي تعديلات في فهم الدين و تعزيز طرائق تشكل جديدة للدين , تهيّؤه لهذا الدور . فبرهان الدين- تبعا لهذا الموقف- ليس في علميته ؟
بل برهان الدين في تأكيده على البعد القيمي و المتسامي للإنسان , و برهانه هو صلاحيته و الارتقاء بحيوية الفرد و الجماعة, و هذا الفهم للدين لا يتم بناء على قراءة مخلصة لحرفية النصوص , أو بناء على قراءة تبجيلية تقدّس التراث , و لكنّه يرتبط بسياقات تاريخية متغيّره جعلته ممكنا و ضروريا , ليس لجماعة المؤمنين فقط , و لكنه ضروري للمجتمع بكل أطيافه, فالدين – و هذا أكثر إلحاحا ً في حالة الإسلام –قضية لا تخص المؤمنين فقط, بل هو قضية تحدي تاريخي و حضاري لمجتمعات و دول بأسرها
أملا ً في بناء مجتمع و انتماء متصالح غير مشروخ.
*
السياق الثالث:
الإعجاز العلمي في القرآن هو جزء من تصوّر جوهراني للإسلام , ينتقل بالإسلام من عقد فئوي يلزم الموالين له و جماعة المؤمنين, إلى مشروعية ملزمة - بقوة إلزام العلم- للبشر كل البشر . فالإعجاز العلمي هو قرينة إلزام بغض النضر عن التصريح بذلك أو لا من قبل مروّجيه, و بالتالي هو ينمّي حضور ظاهرة العنصرية و تسويقها بلبوس ديني
* السياق الرابع:
إمكانية توظيف مصالح الإعجاز العلمي للقرآن من قبل المسلمين, و الإعجاز العلمي للكتاب المقدس من قبل المسيحيين..الخ , في صراعات ذات بعد عقائدي موظّف سياسيا. ففي خطابات الاعجازيين من مسلمين و مسيحيين , هناك حضور للآخر العدو بشكل هائل, و هذه الإمكانية للتوظيف التبشيري و الصراعي تجعل من الصعوبة إقناع المؤمنين بخطل الإعجاز العلمي, و سيُنظر له على نطاق واسع بأنه انحياز لصالح الأعداء؟!
*
السياق الخامس:
لا يمكن فصل ازدهار ظاهرة الإعجاز العلمي عن السياقات الاقتصادية و السياسية و التكنولوجية المعاصرة
اقتصاديا :الطفرة النفطية في دول الخليج العربي و دورها في توظيف رأس مال "دعوي تبشيري"
سياسيا : الصراع السياسي مع الهيمنة الامبريالية الغربية , و زيادة الطلب على ايديلوجيا إسلامية " صلبة" جهادية تتصدّى "للغزو الفكري"
و تكنولوجيا : ثورة المعلومات و انتشار الفضائيات و الإنترنت و تنامي الطلب على مادة إعلامية – إسلامية- مرغوبة جماهيريا ً , و اقتراب الخطاب الإعلامي من خطاب المجتمع كما, هو بدون كثير من الفلترة و الرقابة.
*
السياق السادس:
اللا جدوى العلمية و الاقتصادية للإعجاز العلمي , فلم نجد اكتشافات أو اختراعات استُلهمت من نصوص مقدّسة, و لم نجد حلولا لمشاكل عملية أو تطويرا لثروات و موارد اقتصادية استلهاما من نصوص مقدسة.
بالمقابل نجد جيشا ً من المشتغلين و المنتفعين ماديا و رمزيا بالإعجاز العلمي, و نرى مؤسسات وهيئات ترعى الإعجاز العلمي ممولة من التبرعات الخيرية أو
مدعومة حكوميا من قبل دول تتبنّى فهم جوهراني للدين قليل الصلاحية , أليس من الأجدى صرف هذه النفقات على التعليم و الصحة و تطوير البُنى التحتية؟
لدينا الكثير من "الباحثين" في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
و القليل من المشتغلين بالبحث العلمي
الدراسات المنشورة بالعربية في موضوع الإعجاز العلمي تقدّر بالآلاف
أما الدراسات المنشورة في موضوعات علمية فقليل القليل
أي فصام هذا ؟!
و أي اعتلال للبداهة؟!
ملاحظة أولى : لا تتنافى وجهة النظر التي عرضتها في المقال السابق مع مشروعية الإيمان بالقرآن الكريم .
ملاحظة ثانية: يمنع استخدام هذه المقالة في سياق التبشير و الصراع الديني
* شاعر وكاتب سوري