النفاق والباذنجان
أ.د . عبد الرحمن البر
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين
وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
أطل أحد مذيعي قناة الجزيرة على مشاهدي القناة وقد بدت على وجهه السعادة وتكاد تسمع مع الكلمات التي ينطق بها نشيدا من أناشيد الحرية التي انتظرها الشعب المصري كثيرا، والتي لا تزال كثير من شعوبنا العربية تنتظرها بفارغ الصبر، ولفت نظري إشارة المذيع إلى بعض الكتاب والإعلاميين المصريين الذي كانوا حتى وقت قريب يسبحون بحمد الزعيم الملهم محمد حسنى مبارك باني نهضة مصر الحديثة ورافع لواء التقدم والرقي فيها، ويصبون جام غضبهم على الشباب المغرور المخدوع الناكر للجميل المنقاد للأيدي الخارجية التي تعبث بمصر وتريد أن تصادر مستقبلها المشرق، حتى إذا ما غربت شمس يوم سقوطه كان أولئك الكتاب والإعلاميون أنفسهم يرجمون الديكتاتور الطاغية حسنى مبارك ويهنئون شباب مصر الكريم الواعي الذي تحرك لإنقاذ مصر وهب لحماية شعبها من عبث الديكتاتور وأزلامه الذين ساموا الشعب سوء العذاب.
إنها صورة تعبيرية للنفاق في أوضح مظاهره، وهي تذكرني بحكمة أبي الفتح البستي
والنَّاسُ أَعْوانُ مَنْ وَالَتْهُ دَوْلَتُه وَهُمْ عَلَيْه إِذَا عَاَدْتُه أَعْوَانُ
والناس الذين قصدهم أبو الفتح رحمه الله هم أولئك الذين تعجب منهم مذيع قناة الجزيرة، وهم إخوان نديم الباذنجان الذي تكلم عنه أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله، والذي رأى في الباذنجان شفاء من كل العلل حين سمع السلطان يمدحه، ثم رأى في ذات المجلس أن الباذنجان سبب موت كبار الحكماء والأطباء حين ذكر السلطانُ ما يجد من المرارة عند أكله. قال شوقي رحمه الله:
كان لسلطان نديم واف يعيد ما قال بلا اختلاف
وقد يزيد في الثنا عليه إذا رأى شيئاً حلا لديه
وكان مولاه يرى، ويعلمُ ويسمع التمليق، لكن يكتمُ
فجلسا يوماً على الخِوان وجِيء في الأكل بباذنجان
فأكل السلطانُ منه ما أكل وقال: هذا في المذاق كالعسل
قال النديم: صدق السلطان لا يستوي شهد وباذنجان
هذا الذي غنَّى به "الرئيس" وقال فيه الشعر "جالينوس"
يُذهب ألف علة وعلة ويبرد الصدر، ويشفي الغُلة
قال: ولكن عنده مراره وما حمدت مرة آثاره
قال: نعم، مر، وهذا عيبه مذ كنت يا مولاي لا أحبه
هذا الذي مات به "بقراط" وسم في الكأس به "سقراط"
فالتفت السلطان فيما حوله وقال: كيف تجدون قوله؟
قال النديم: يا مليك الناس عذراً؛ فما في فعلتي من باس
جعلت كي أنادم السلطانا ولم أنادم قط باذنجانا
فهل ينتبه شعب مصر الذكي الأبي لتلك الفئة الذين لا يرون أنفسهم إلا عبيد من ملك، والذين لا يجدون حرجا في استخدام أقلامهم وإعلامهم للترويج لكل من جلس على كرسي الحكم، والذين يصنعون الفراعنة والشاهات (جمع شاه فلا أراه يمكن أن يجمع جمع الذكور) ويؤلهون المستبدين الذين ابتلى الله الأمة بتسلطهم على مقاديرها؟.
أسأل الله أن يحفظ مصر وثورتها وشبابها وشعبها وشعب العرب والمسلمين من ندماء الباذنجان الأفاكين الأفاقين.