وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بـ(الأديب)

وصف النبي محمد

صلى الله عليه وآله وسلم بـ(الأديب)

- رؤية تأصيلية -

د. أحمد قاسم كسار

جامعة ملايا – ماليزيا

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، }يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون{،}يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً{،}يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً{.

أما بعد:

فقد حضرت لقاءً أدبياً في رحاب الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا بحضور رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية فضيلة الأستاذ الدكتور عبد القدوس أبو صالح بدعوة شخصية من الأستاذ الدكتور منجد مصطفى بهجت مسؤول فرع الرابطة بماليزيا، وخلال اللقاء أثيرت موضوعات كثيرة لها علاقة بالأدب والفكر وغيرهما، ومنها اعتراضي على وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بـ(الأديب)، ودفاع رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية عن هذا الوصف وإجازته له، بتأييد الحضور وموافقة الأغلبية، فكان من الواجب الشرعي والعلمي الملقى على عاتقي أن أبين وجهة نظري برؤية تأصيلية نحتكم فيها إلى الدليل والبرهان، من غير أن تأخذنا العاطفة بعيداً عن الشرع والتقيد به.

فأقول وبالله التوفيق ومنه الهداية:

نحن -هنا- نتكلم عن مصطلحات، فالأدب لا نعني به الخلاق، وإلا فالرسول كان خلقه القرآن، ولا نعني به التعليم، فالرسول بعثه الله معلماً، ولا نعني به التربية؛ لأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم القائل في الحديث الصحيح المعنى كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، الضعيف سنداً كما حكم عليه الشيخ الألبانيّ: ]أدبني ربي فأحسن تأديبي[.

إذن فالأدب نعني به الأدب الذي يعرّفه أهل الفن بأنه: ((الكلام البليغ، الصّادر عن عاطفة، المؤثّر في النفوس))، وبهذا التعريف يحرم علينا أن نصف النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالأدب بهذا المعنى لأنه صادر عن عاطفة، والله -سبحانه وتعالى- قال عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: }وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى{ )سورة النجم: 3-4)، وقال: }إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ{ (سورة الأحقاف: 9).

وقد جاءت الآيتان بأسلوب القصر عن طريق النفي والاستثناء، وهذا واضح في إثبات أن كلامه صلى الله عليه وآله وسلم محصور في كونه وحي، فهو لا يتكلم إلا به، وليس بغيره.

ومن هنا يتضح الفرق بين العاطفة والوحي، فبلاغة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأثيرها في النفوس صادرة من وحي وليست بعاطفة، وهذا ما جاء التصريح به في نص القرآن الكريم.

ثم إن في أدبيات الأدب ما يشين مقام النبوة ويحط من شأنها، فإذا وصفنا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالأديب -حاشاه- فإنَّ ذلك يتطلب منا الإقرار بكل ما تحمله الصنعة الأدبية من معانٍ ومفردات، فالأدب يسمى الكذب خيالاً، والصدق الأدبي يعنون به الصدق الفني ولا يعني بالضرورة الصدق المعهود شرعاً وخلقاً، وهذه كلها وغيرها مما تنقص من قدر نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق الأمين، وهاتان اللفظتان تتعارض مع إطلاق لفظة (الأديب) على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أعني أن الأدباء كذابون، لا ولكن أدبهم يحتمل الصدق والكذب، وكلام النبوة وحي كما عرفنا، ومسألة صحة الحديث من عدمه تتعلق بالرواية وسند الرجال ونقلهم للمتن، ولا تتعلق بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ولي أن أستشهد -هنا- بحديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- والذي يقول فيه: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق"، حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده: 2/162، وأخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب في كتابة العلم برقم: (3646)، وإسناده صحيح.

وإذا تخصصنا في موضوعنا وأخذنا تعريف الأدب الإسلامي من رابطة الادب الإسلامي العالمية نفسها على المثل القائل: "من فمك أدينك"،  فقد عرفوا الأدب الإسلامي على أنه: ((التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق التصور الإسلامي))، فقولهم: (التعبير) يعني كما درسنا التعبير وكما فهناه على أنه: ((فيض يجري بخاطر الكاتب، فيصور مدى انعكاس ما يراه، أو يسمعه بعبارات فيها ألفاظ تحدد، وأفكار توضح، ومعان تترجم ما يختلج في الصدر من عواطف ومشاعر وأحاسيس))، فهل كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خواطر؟ وهل هو انعكاس لما يراه أو يسمعه؟ ثم إن بعضهم قيّد تعريف التعبير على أنه حالة كلامية قد يصيب فيها المتكلم أو يخطأ، وينظر تفاصيل هذا الموضوع في كتب الفروقات اللغوية بين التعبير والتأويل، فهل كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متذبذب -تعبيرياً- بين الصواب والخطأ؟

ثم وصفهم للأدب الإسلامي على أنه: (الفني) فيه نظر، فقد صحح اللغويون المعاصرون هذه اللفظة، وعدّوها من الأخطاء الشائعة؛ لأنّ الفنان في اللغة: الحمار الوحشي، ولكم أن تراجعوا معاجم اللغة وقواميسها للتأكد من استعمال هذه اللفظة، ويكفيكم الأعشى شاعراً جاهلياً في التعامل مع هذه اللفظة، فقد استعمل هذه الكلمة ليدل بها على الحمار الوحشي، فقال:

و إن يك عربيب من الشّد غالها *** بميعة فنان الأجاري مجذم

فهل يصح ويجوز أن نستخدم لفظة (الأديب) بحق نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذا التعريف المختار من رابطة الأدب الإسلامي العالمية المتضمن لفظتي: (التعبير)، و(الفني) المتعارضتين لفظاً ومعنىً مع مقام النبوة والرسالة؟

ثم إن الأدب ينقسم إلى شعر ونثر، فالشعر هو قسيم الأدب وفرع منه؛ فلما نفى الله سبحانه وتعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشعر، وهو فرع، فمن باب أولى نفي الأصل وهو الأدب بمعناه الإصطلاحي، فإذا كانت منتهى أحلام الأدباء والشعراء هو رئاسة رابطة الأدب الإسلامي العالمية أو شرف العضوية فيها، أو تمثيل مكاتبها في الداخل والخارج، فهذا الذي يناسبهم لا يناسب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في أن يجادولوا لإضفاء صفة (الأديب) في حقه صلى الله عليه وآله وسلم، كي يزجّوا باسمه الشريف في تخصصهم واهتماماتهم، فهذا قدح في حقه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد دافع عنه ربنا سبحانه وتعالى فقال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ}(سورة الحاقة:41)، وقال: {ومَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ}(سورة يس: 69)، ولهذا ورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم؛ بل إن إنشاده لبعض شعر مروي بطريق الزحف أو النقص أو التكسير العروضي، وهو من بيت شعر وقصيد فقد روى مجالد عن أبيه عن الشعبيّ أنه قال: ما ولد عبد المطلب ذكراً ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إما إذا قلت لي يصح أن نقول: (الرسول الخطيب) والخطبة نثراً من أقسام الأدب، فأقول: نعم؛ لأن الخطبة مصطلح شرعي في الإسلام، فلا مانع من أن يوصف بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأن هذه التسمية مستندة إلى دليل شرعي، أما وصف: (الأديب) فلم يرد لا في القرآن ولا في السنة.

فإذا كانت الجاهلية الأولى حرصت على وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أنه شاعر لأغراض معلومة وأهداف مقصودة، فلا ينبغي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية أن تأتي اليوم بجاهلية جديدة لوصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أنه أديب.

والمشكلة في هذا الوصف الجاهلي الجديد أنه بدعة غير مسبوقة، فقد تجاوز الغلاة من قبل في أسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته؛ لكنهم مع إلحادهم في الأسماء والصفات لم يخترعوا لنا وصف (الأديب)، فلم أجد هذا الاسم في الكتاب أولاً ولا في السنة الصحيحة ثانياً والضعيفة ثالثاً والموضوعة رابعاً.

ولم أجد أحداً يذكر أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من صفاته (الأديب)، فقد راجعت الكتب التي  جمعت أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته، وتصفحت كتب السير والشمائل والتاريخ والآثار، فلم أقف على شيء مما ابتدعته لنا رابطة الأدب الإسلامي العالمية.

فكيف بهذا التجرؤ على رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فمن جعل أسماؤه وصفاته صلى الله عليه وآله وسلم خمسة، أو عشرين أو سبعين، أو تسعة وتسعين، ومن أوصلها لمائة ومائتين، ومن بلغ بها الألف والألفين كلهم لم يذكوا صفة: (الأديب) !!!

ختاماً فإني أنقل قولين أختم بهما مقالتي، أحدهما من العلماء القدامى، والآخر من المحدثين، فأما أولهما فهو للغوي ابن الطيب الفاسي في "شرح كفاية المتحفظ" لابن الأجدابيّ فقال في صفحة: 51، ما نصه: ((ثم –أي: مؤلف كفاية المتحفظ -وصفه- أي: وصف النبي صلى الله عليه وسلم  بما وصفه الله تعالى به في القرآن العظيم من كونه خاتم النبيين سيراً على جادة الأدب؛ لأن وصفه بما وصفه الله به -مع ما فيه من المتابعة التي لا يرضى صلى الله عليه وسلم بسواها- فيه اعتراف بالعجز عن ابتداع وصف من الواصف، يبلغ به حقيقة مدحه -عليه الصلاة والسلام-، ولذا تجد الأكابر يقتصرون في ذكره -عليه السلام-  على ما وردت به الشريعة الطاهرة كتاباً وسنة، دون اختراع عبارات من عندهم في الغالب".

وأما القول الآخر فهو للعلامة بكر أبو زيد -رحمه الله- في معجم المناهي اللفظية، في الصفحتين: 362-363، ما نصه: ((في هذه الأعداد كثير من المبالغات، والصحيح أن أسماءه صلى الله عليه وسلم أقل من ذلك بكثير، ولا يجوز اعتبار كل وصف ثبت له في الكتاب والسنة من أسمائه الأعلام، فضلاً عن أن أسماءه توقيفية، لا يجوز الزيادة عليها بما لم يرد في الكتاب والسنة الصحيحة ... الذي له أصل في النصوص إما اسم، وهو القليل، أو وصف، وهو أكثر، وما سوى ذلك فلا أصل له، فلا يطلق على النبي صلى الله عليه وسلم حماية من الإفراط والغلو، ويشتد النهي إذا كانت هذه الأسماء والصفات التي لا أصل لها فيها غلو، وإطراء)).

وفي الصحيح ما يغني فلدينا أسماء وصفات تعطي المدلول نفسه من غير ابتداع، فيصح وصف نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بـ(صاحب البيان، فصيح اللسان، خطيب الأمم)، وغيرها.

وصلى الله على نبينا ورسولنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.