وأخيرا قررت

فاطمة ال شبير الخاقاني

طالما كان يوجهني لقراءة كتاب ما او شراءه،وكعادته حفزني ان أزور المكتية لأنها تستعرض حسب الأعلان الذي سمعه كتب مؤلفين عظام قد رحلوا وتعتبر كتب نادرة وقديمة  علها تؤثر في حالتي النفسية المتأزمة،لكن ولأول مرة لم  يقترح علي كتاب ما . جميع مقترحاته كانت مؤثرة منذ كنا أطفالا، ومن ثم مراهقين وشباب ونحن نعقد مع أقراننا من الأهل والمعارف مجالس بحث عن أحداث البلاد ومصير العالم ونوجه نقدا لاذعا أيضا لأنفسنا بأننا  متى نصل الى مستويات العالم وحضارته والتطور الذي وصل اليه . وكان حافزنا لشراء الكتب وقراءتها أمر وكأنه سيدفعنا الى متونها وأفكار كتابها لأيجاد أمر عجب وفاعل لحل مشاكلنا وأصلاح مجتمعاتنا بما يشبه انتظار المعجزة بين طيات السطور والصفحات، أملا بان تنقلب الدنيا لصالحنا في ليلة وضحاها في زمن تلك الجلسات وتلك الحوارات .

 أستمريت بامعان العناوين وتفتيش صفحاتها،وباتت الافكار وروح مبادئها الأنتقادية تتأرجح في نظري بين صفحة وأخرى متوجهة لأزمنة الكتاب وتاريخ صدوره لأتساءل : لو مثل هذا الكتاب كتب الآن ماذا سيكتب عن هذا الوقت ؟

ان حالة النقد نتوارثها وانها تنمو مع أعمارنا ،ومن العجيب لا تشيخ مثلنا بل يصيبها من الحرص والطموح كأي شيخ قادم للموت ولكنها هي لا تموت،واستمريت أستعرض الكتب وتبين لي أنني أستعرض نفسي في الماضي .

كتب أعرفها وكتب سمعت عنها،وبعضها تأخرت لأشهر في قراءتها وان بعض الأهل والأصدقاء ممن لهم نفس الأهتمامات يتفاخر بأنه لم ينهي الكتاب الا بسنة تقريبا، بحجة ان الكتاب يتميز بالعمق ولابد أن يفهمه ويفهم مالذي يريده هذا الكاتب العظيم . كل شيء حتى في تلك اللحظة يختلف عن بعضه البعض،وأن الحياة وما عشته لم يكن مقارنا بكتاب قرأته ولم أجد كتابا يشبهني،الا في بعض كتب الأطفال وقصصهم من الناحية العاطفية أو تلك التي تتحدث عن الحب لربما استطاعت ان تلمس مشاعري  في وقتها رغم أنها لم تتمكن من التعبير عني .

فما فائدة كتاب يتحدث عن ثورة في بلاد بعيدة ، فقيل لي: للخبرة .

فأقول: أي خبرة يمكن ان تكون لها تجربتي الى تلك البلاد او الى بلدي ؟ مثلا تحويل الناس الى موظفين او الغاء صفة العمال الى فلاحين او تغير صفة الانسان الى عامل أو أو ، وكأنها هذه الأوصاف لم تكن مسميات لأمكانيات الأنسان وليس لها علاقة بالتنظير لأي كاتب، وانها من طبيعة البشرية حتى صفة القارىء أو صفة الكاتب . وأي من هذه الابداعات للمنظرين يمكن ان تشبع فقيرا او تنصر شعبا على المأساة ؟

انتبهت لحوار بين رجل وزوجته دون ان أدير رأسي لهم  فقال لها :ضعي الأكياس كي تساعديني في تقليب الكتب .  

فأجابته : حسنا ولكن يجب ان تعرف ان رفع خمس كيلوات من الرز والشكر أتعبتني وانك ايضا تعبت من حمل تقريبا خمس كيلوات من الفواكه والخضروات،فلابد ان تفكر ان لاتكون الكتب ثقيلة الوزن .

فابتسمت لهذا الحوار وعندها سمعت همس شباب بينهم : ماذا نفعل بهذه الكتب المتهالكة فأنها ستتلف قبل ان تصل البيت .

تصورت أن الامور لم تتغير أبدا هي .. هي، كما كانت، وربما ايضا أي واحد منا مهما كانت اهتماماته لايتحمل ثقافة الناس ومعرفتهم وبالتالي يظهر انه لاضرورة للكتب ولا للفكرة الجديدة، وأعتقد كان دوما ذلك تبرير لمن لا يشجع على الثقافة والمعرفة وتحديد نوعية الكتابة والفكر باجبار .

والتفت أم الى ولدها وابنتها القادمين لشراء الكتب : فالنتصور بان الواحد منا مبتل بالمطر واطرافه تسيل ماء وهو ينوي شراء الكتب أو أنه يحملها، ماهذا المشهد المزعج ؟ هل تعتقدون من الضروري شراء الكتب في يوم ممطر ؟ لأني أعتقد لايمكن لأي كائن أن يبقى تحت المطر الا السمك، فكيف بهذه الكتب التي هي بالأصل تالفة.

ولمحت أبنتها وولدها يتأففون، دون ان يبالون بالحديث لتقول الأخت لأخيها: الم أقل لك لابد ان نأتي الى شراء الكتب على انفراد  .

وجُلّ النقاش كان سببه المكتبة والهمة لشراء الكتب بين افراد مجموعة تسير بين ممرات مناضد عرض الكتب : كل ما تقوله صحيح ، وانه من الممكن ذلك ، ولم أجد من ينكر هذه الحقيقة ، أن الأمر له خسائره وتضحياته ، عندما تكون الغاية شريفة والهدف مقدس ، وعندما نؤمن أن المستقبل أكثر أشراقا ، فكل ذلك يحتم علينا تقبل التضحيات والخسارة المادية ، لابد من استرخاص الدم، الا تعرف أن هذه الدماء رمز لأي شيء ؟ قل لي وجهة نظرك ؟ نعم أنه نزيف الدم ولكن لابد ان نؤمن أن هناك نبع يجدد هذا الدم ويبعث فينا الحياة ، أن الدماء هي التي تعرفنا على بعضنا اليس كذلك تلك المدافع هي التي تحكم الصلة بيننا في هذه الدنيا ؟ الا يذكرك مثل هذا الرأي بمجدنا الماضي وبالأجداد الابطال ؟ 

دفعني الفضول لاحدق في وجوه المجموعة، فكان لصمت بعضهم  تعابير متقطعة وكأنهم يخشون شيئا ، من الملاحظ لم تكن تفاصيل حياتهم لهم محببة وكأنهم يصرخون من أنهم لهم تعريف أخر مضاد لما تطرق له صاحبهم ، فاعجبني الأحساس بالصمت والتعبير المضاد، والواحد منهم في نقاشه لم يظهر عليه الأهتمام بشراء الكتب وهم يسيرون بين الممرات كأن المكتبة منتزه .

كان كل أمر في هذه المكتبة بالنسبة لي جديدا، كأني لم أعشه من قبل وربما كان هذا الشعور مني تجاه الاخرين مختلف . الطفلة التي في داخلي ليست فقط حية فحسب، بل وكانت مسرورة من أنها مازالت تكتشف الحياة .

كنت أخطو خطواتي بهدؤ ولأول مرة اكتشفت أن لدي فضول الاستماع للأخرين ولربما هي خصلة جديدة ولدت عندي أخيرا ، وكأني أعتصر قلب انسان لأنعشه وهو مستلقي وقد قارب على الموت، وقد باتت عيناه مثل بساط مبتل بالمياه ذابلة بخيوط ممزقة . حاولت أن أعزيه على ما هو عليه ، وكنا قد اعتقدنا أن نمط هذا الطبل المدوي المعتاد من عبارات التسلية تنفع في كل مكان وكل زمان عندما نعزي القلوب المتحطمة لسبب ما ، ولكن من الواضح لم يكن لها اثرا مع هذا المسكين . واكتشفت أن أحيانا لا يمكن ان يسمعك احد سوى نفسك لأن الأمر أبلغ من أن تستوعبه لغة انسان ما فتكون لغتنا للأخرين أجنبية حتى ولو لغة الاثنين، المتحدث والسامع المهموم، كانت عربية .

فقررت أن أكتب كتابا ليس في المكتبة بعد، بل وليس في كل المكتبات العالم وذلك الكتاب هو أن أعيش حياتي . فزينت مكتبتي بما حملت من الكتب واندفعت لأدون نفسي.