الممارسة الفلسفية في المنظومة التربوية

أولا- في المدرسة الثانوية:

ياسين سليماني

[email protected]

يمكننا أن نصطلح على الفلسفة بأنها " محبة رؤية الحقيقة والقدرة على السمو إلى الجمال بالذات ومحبته كما هو في نفسه، مثال من المثل وليس ممثلا في شيء جزئي حسي"، كما عند أفلاطون في جمهوريته، وهي

" نبش للأسس  وتعرية للأصول وفضح للبداهات " على ما يعرّفها علي حرب في كتابه" الممنوع والممتنع". أوهي " سؤال دائم ورصد مستمر لمسار الحياة الإنسانية، ووصف متجدد لجواهرها وأعراضها، وهي أيضا فحص متمرس من الإنسان لوجوده في أبعاده الفردية والاجتماعية والكونية "كما يراها د. محمد جديدي في "الحداثة وما بعد الحداثة".

ولمّا كانت الفلسفة على هذا القدر من الأهمية، فإن تموضعها كخطاب في أي بلد يفترض أن يقوم مقام السبق والأولوية لدى كل ذي سياسة حكيمة ورشيدة.

فإذا ما تجاوزنا المقولة المعيارية أو حتى الطوباوية واخترنا أنموذج الجزائر كمجال للبحث وساءلنا الخطاب الفلسفي فيها، أو الممارسة الفلسفية في مؤسساتها التعليمية، فإن إشكاليات ستتراءى أمامنا، كثيرة متعددة، ومختلفة متباينة.

وفي هذه العجالة من القول، نختار وضعية هذا المجال المعرفي الهام والعميق، محاولين قدر الإمكان تشخيص الصعوبات والعقبات بتحليل الممارسة الفلسفية في المؤسسة الثانوية بما أنها أولى مدارج تلقي المتعلم لهذا النوع من المعرفة، ثم نستتبع حديثنا حول الموضوع ذاته في المؤسسة الجامعية مقرونا أو متبوعا بتحليل الكتابات الفلسفية الجامعية. مستندين في هذا إلى كتاب أساسي ألفه الدكتور الزواوي بغوره وهو

" الخطاب الفكري في الجزائر" وكذا كتاب "الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام" عائدين إلى الكتب المدرسية الخاصة بالفلسفة.

بدأ تدريس الفلسفة باللغة العربية في المرحلة الثانوية في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات وذلك بعد أن تخرجت الدفعة الأولى من الجامعة، فشرع الأساتذة في تقديم دروسهم في المرحلة النهائية من التعليم الثانوي بالاستعانة بمطبوعة توجيهية تحدد المواضيع الواجب تدريسها، وبعدها صدر كتاب " الوجيز في الفلسفة" للأستاذ محمود يعقوبي المترجم عن الكتاب المدرسي المعتمد في فرنسا آنذاك، وكان تدريس الفلسفة إلى غاية الإصلاح التربوي  لسنة 1992 يتم في الأقسام النهائية لجميع الشعب الرياضية والعلمية والأدبية، وكان الحجم الساعي موزعا على النحو التالي:08 ساعات أسبوعيا للأقسام الأدبية و 04 ساعات للأقسام العلمية والرياضية، وعمل بهذا البرنامج إلى حدود عام 1980م، ومع بداية الثمانينات بدأت سلسلة من الإصلاحات.

يرى الدكتور الزواوي بغوره في ورقته المقدمة في الندوة الفلسفية الثانية عشر المنظمة بجامعة القاهرة في نوفمبر 2000 م أنها محتشمة ومترددة لأنها جرت في غياب كلي للخبراء والجامعيين، فتم تعديل أولي للبرامج، فأضيفت الأهداف وتم اقتراح طريقة للتدريس وتقليص لعدد المواضيع، إلا أن الإصلاح لم يمس مضمون البرامج، واستمر هذا التعديل الأولي إلى غاية 1991، تاريخ الشروع في إعادة النظر في التعليم الثانوي بمجمله، بتشكيل لجان تربوية وطنية، وعلى إثر ذلك ظهر برنامج جديد يختلف كثيرا عن برنامج كتاب "الوجيز" للأستاذ يعقوبي، بإدخال "التعليمية في الفلسفة" وهنا تم لمرة جديدة تقليص محاور ومواضيع الوجيز من 28 إلى 22 في الشعب الأدبية ومن 14 إلى 10 في غير الأدبية، وتم في الوقت ذاته إدخال تعليم الفلسفة في السنة الثانية ثانوي فرع الآداب والعلوم الإنسانية والعقيدة.

غير أن جديد هذا البرنامج هو تقليصه لمواضيع الفلسفة واستبعاده للمحاور الأساسية فيها كالألوهية ومصير الإنسان والروح والمادة، واستحداث مادة الفلسفة الإسلامية من منظور سلفي.

والذي - كما يرى د. بغورة- جعل من فلاسفة  الإسلام مجرد تابعين لأرسطو، مختزلا ومبسطا جميع المواضيع المدرجة في البرنامج.

ورغم ادعاء القائمين على هذا البرنامج بأنهم سعوا من خلال وضعهم له بهذه الطريقة من أجل "تعليمية الفلسفة" القائمة على الحوار لا على التلقين، إلا أن ذلك لم يكن إلا دعوى فارغة، لأنه لا تعليمية مع انعدام يكاد يكون كليا للأساتذة المؤطرين بدليل التقرير الخاص بالجامعة الصيفية لتعليمة الفلسفة الذي يعترف قائلا: إن التأطير يكاد ينعدم، بل إنه لا وجود له على مستوى الجامعة ذاتها".

ومحاولة للمزيد من الإصلاحات التي يسميها الدكتور بغورة " ترقيعات" تم اعتماد طريقة جديدة في طرح الأسئلة وكانت كارثة حقيقية على المادة، وهي طريقة الأسئلة الجزئية، والتي جعلت من التلاميذ أجهزة آلية لتخزين المعلومات وعرضها عند الطلب وانحصر دور الأستاذ في حشو أدمغتهم بتلك المعلومات الجاهزة ولم تُلغَ هذه الطريقة بالغة السوء إلا حوالي سنة 1998م رغم أن آثارها ما تزال مترسبة عند الكثير من الأساتذة والتلاميذ على حد سواء.

في كتابه "الخطاب الفكري في الجزائر" يجمل الدكتور الزواوي بغوره" ثماني نقاط أساسية يرى أنه من الواجب علينا التوقف عندها:

1. توسعت مكانة الفلسفة كميا، بحيث أصبحت تدرس لسنتين في الثانوية وحجم ساعي مقبول.

2. أصبح التأطير جزائريا بالكامل رغم ما فيه من سلبيات كالمحدودية في المعارف ونقص التكوين.

3. إن الإصلاحات التي عرفها برنامج الفلسفة ليست أكثر من تعديلات بسيطة ومجزأة تتسم بالسطحية والتبسيطية والاختزالية.

4. لم يكن القائمون على هذه الإصلاحات سوى أولئك الأساتذة والمفتشون الذين كانوا مدرسين للمادة، وهم يعانون من قلة الإمكانيات مع ضعف واضح في الاتصال بالفلسفة الحديثة والمعاصرة والطرق الجديدة في التعلم بسبب القصور المعرفي واللغوي معا.

5. يعاني تدريس الفلسفة في الثانوي كما الجامعي من الانغلاق والعزلة مما أدى إلى ضعف في المستوى وفي تشكيل تصور خاطئ عن الممارسة الفلسفية في العالم.

6. الإضافة الأساسية للبرنامج الجديد هو تسطيره لعدد من الأهداف التربوية وتقديمه لطريقة في تحليل المقال الفلسفي والنص الفلسفي وتقنيات الدرس.

7. يشكو البرنامج من نقائص عدة أهمها من الناحية المعرفية إلغاؤه كل ما يتعلق بالبحث والتأويل الفلسفي والدلالة الفلسفية، علما أن هذه هي الجوانب التي تشكل خصوصية ووحدة كتاب مدرسي في الفلسفة.

8. كما يشكو البرنامج من كل تجديد من ناحية المعلومات والأفكار الفلسفية والموضوعات المقترحة، ولعل غياب النصوص الفلسفية في البرنامج – كما يجب أن يكون- هو العقبة الأساسية في كل تطوير للممارسة الفلسفية في الجزائر.

وإذا كان هذا هو الحال في المؤسسة الثانوية فلا نعتقد أن الممارسة الفلسفية في الجامعة أفضل حالا وأحسن وضعا من الأولى ولعل مقالا قادما سيبين ذلك على وجه التحديد.

للتوسع في الموضوع يرجى العودة إلى الكتب التالية:

- د. الزواوي بغورة: الخطاب الفكري في الجزائر.

- حسن حنفي وآخرون: الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام.

-كتب مادة الفلسفة: قسم الآداب والعلوم الإنسانية للسنتين الثانية والثالثة.