متى نعيش إسلامنا
حسام مقلد *
يخيَّل إليَّ في أحيان كثيرة أننا لا نعرف الإسلام حق المعرفة، وأن معرفتنا به ربما لا تعدو معرفة الجوانب الشكلية والعبادات البدنية فقط!! وأشعر أننا محرومون كثيراً من العيش الهانئ السعيد في رحاب الثقافة الإسلامية الراقية بمفهومها الواسع الرحيب، وطبعا المسلمون جميعا يحبون الإسلام ويعتزون به ولا شك في ذلك، لكننا نتكلم عنه وعن حبنا له أكثر بكثير جدا مما نعيشه ونمارسه بالفعل في واقع حياتنا العملية، أو نترجمه في تعاملاتنا وسلوكياتنا اليومية!!
ولكن ما السر في غيابنا أو تغييبنا عن الثقافة الإسلامية الحقيقية وحرماننا منها ومنعها عنا؟! ما السر في حجب هذه الثقافة الراقية عنا، ومحاصرتها وعزلها عن تيار الحياة الهادر؟ ومن المستفيد من تقزيم معناها وتهميش تواجدها في الحياة وتقليص هذا التواجد إلى أدنى مستوى له؟! إن الثقافة كما عرَّفها المفكر العربي الكبير (مالك بن نبي) هي: "مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه".
أي أن الثقافة السائدة في مجتمعٍ ما هي التي تصوغ شخصية الفرد وتشكل هوية الأمة، وأساس الثقافة هو القيم والمبادئ والأخلاق المنبثقة عن العقائد والأفكار والرؤى والتصورات، فالثقافة إذن روح تفاعلية تنقل القيم والمبادئ من حيز الفكر المجرد إلى مجال العمل المحسوس، بعبارة أخرى يمكن القول: إن ثقافة أية أمة تنبع من عقيدتها ومنظومة رؤاها وتصوراتها المعنوية: من مبادئ وقيم ومُثُل وأخلاق وأفكار...، وهذه الرؤى والتصورات يظهر أثرها قطعا في الجوانب المادية الملموسة من سلوكيات وممارسات حياتية وعادات وتقاليد، وما يبدعه الناس من فنون وآداب وصناعات واختراعات ومبتكرات مختلفة...إلخ.
وبناء على ذلك يمكننا فهم مصطلح (الثقافة الإسلامية) باعتباره يشير إلى: جملة العقائد والأفكار، والرؤى والتصورات، والأحكام والتشريعات، والقيم والمبادئ، والعادات والأعراف والتقاليد، والفنون والآداب،... وغيرها من محددات السلوك الإنساني التي تشكل شخصية الفرد المسلم، وهوية الأمة الإسلامية وفق أسس وضوابط وتعاليم الإسلام.
لكن هل يعيش المسلمون اليوم بصورة فعلية في كنف ثقافتهم الإسلامية ووفق نموذجها الحضاري الفريد؟! بتعبير آخر هل نمارس ثقافتنا الإسلامية وما تدعو إليه من قيم ومبادئ ومُثُل وأخلاق ممارسةً عمليةً في مختلف مجالات الحياة؟!!!
ولتوضيح الفكرة أكثر أتساءل: ما معنى هذه الكلمات: الزهد، البذل، الصبر، العفو، التسامح، الرحمة، العطاء، التضحية، الأخوة، العدل، المساواة... إلخ؟!! وما هو التجسيد العملي الحي لهذه الكلمات في واقع حياتنا؟!! إننا لو أنعمنا النظر في واقعنا لوجدنا أن أغلب هذه الكلمات مجرد ألفاظ نقولها ونرددها فقط!! لكن معانيها ومدلولاتها غائبة في معظم الأحيان!! لماذا؟! لأن ثقافتنا العملية والحياتية الآن تلح بشدة على ترسيخ الجوانب المادية في أعماق نفوسنا، وتُغْرِق في تجذير الجانب المادي وتعلقنا به في كل تعاملاتنا بصورة أنانية متوحشة عديمة الشفقة، وذلك على حساب الجانب الروحي الداعي إلى التراحم والتكافل والتعاون، ومن هنا ندرك كم نحن محرومون بالفعل من العيش سعداء في كنف ثقافتنا الإسلامية العظيمة...!!
ويظن البعض أن سبب مشكلة عدم تطبيق قيم ومبادئ ومثاليات ثقافتنا الإسلامية، وسبب عدم تجسيد فضائل وأخلاقيات هذه الثقافة بصورة عملية واسعة في الحياة ـ يتلخص في ضعف تعليم الدين وقلة الاهتمام بتدريسه لأبنائنا، لكن الحقيقة هي أن المشكلة ليست فقط في ضعف المحتوى المعرفي الكامن في بنية الذات حول الإسلام وقيمه ومبادئه، وإنما في المستوى الذي تتمتع به الذات في قدرتها على فعل السلوك الحسن المرغوب الذي يدعو إليه الإسلام، والكف عن النزوع للسلوك الخاطئ المذموم الذي يعرف الفرد سلفاً أنه سلوك خاطئ مرفوض يرفضه الإسلام، فالأمر لا يتعلق بالمعرفة أكثر مما يتعلق بالعزيمة وقوة الإرادة، فمثلا المدخن يعرف أن التدخين ضار جدا بصحته!! لكن هذه المعرفة لم تمنعه من التدخين أي ليس لدى ذاته قدرة الكف أو المنع عن التدخين!!
وبالمثل فإن الأخلاق النبيلة والتصرفات الحسنة في المواقف المختلفة لا تتوقف ممارستنا لها فقط على معرفتنا بها وبأهميتها وضرورتها، وإنما بقدرتنا على الالتزام بتنفيذها، وتحويلها من مجرد أفكار نظرية ومعلومات عامة ومعارف عابرة إلى قناعات ذهنية وتجارب عملية، وأحداث واقعية، وبالتالي فلا نغالي إن قلنا إننا في حاجة ماسة للمزيد من التدريب على فهم ومعايشة الثقافة الإسلامية، وممارسة فضائلها ومبادئها عمليا، وتطبيق ما تدعو إليه من قيم عظيمة، وأخلاقيات فاضلة، وسلوكيات قويمة والحرص على الالتزام بذلك وتنفيذه عمليا في كل مواقف الحياة...!!
وقد أقرت مدرسة علم النفس المعرفي التي أسسها العالم والطبيب النفسي الأميركي (Aaron Beck) بأن تعديل بنية الفرد المعرفية، ثم تدريبه على ممارسة التصرفات السوية والسلوكيات الصحيحة كفيل في النهاية بتعديل سلوكه، فإن أزيلت أفكار الإنسان السلبية عن نفسه، وعن الكون والحياة، والحاضر والمستقبل، وحل محلها أفكار إيجابية أكثر وواقعية أكثر، فإن ذلك سيؤدي إلى شعور هذا الإنسان بعاطفة أفضل، ومن ثّمَّ يتصرف في الحياة بفاعلية أكبر وطريقة أحسن، وهو ما يعرف لدى المتخصصين في هذا المجال بالعلاج المعرفي السلوكي...!!
وبالتالي فنحن مدعوون إلى التعرف أكثر على ديننا الإسلامي العظيم، والخروج من القبضة الحديدية التي تحاصر فهمنا للإسلام وتقدمه لنا بطريقة سطحية ناقصة ومشوهة، أو بفهم عقيم وفكر عليل سقيم ومضَلِّل ينفر الناس من فكرة الدين أصلاً جملة وتفصيلا!!
فمثلا نجد أن بعض الناس له فهم معين وتصور خاص عن الرجولة والقوامة والمرأة... فيتعامل مع زوجته بمنتهى القسوة والعنف، فيهينها ويحقر من رأيها، ويتشاجر معها باستمرار، وقد يصل به الحال إلى أن يضربها وغير ذلك مما لا يليق أبدا أن يكون بين زوجين مسلمين يربط بينهما رباط الحياة الزوجية المقدس، ولا شك أن هذا الفهم المشوَّه للرجولة والقوامة بعيدٌ كل البعد عن الإسلام وتعاليمه، ومع ذلك يقتنع به صاحبه اقتناعا تاما، ويروج له على أنه يمثل رؤية الإسلام وفهم الإسلام، ثم يتصرف على أساس فهمه وتصوره هذا، وهو بذلك يسيء للإسلام ويقدم صورة مشوهة عنه، وينفر الناس منه!! فمن علمه ذلك؟ ومن قال له إن هذا هو الإسلام وهذه هي رؤيته للحياة الزوجية؟ وأين هذا من الثقافة الإسلامية الحقيقية ومبادئها العظيمة المنظِّمة لأسس العلاقات الزوجية الرحيمة القائمة على الرحمة والمودة والسكن؟!
لقد قال الله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" [الروم : 21]
وعن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " (رواه ابن حبان)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك" (رواه مسلم).
فالله الله في ديننا وفي تطبيق مبادئه الراقية والعيش في كنف ثقافتنا الإسلامية العظيمة،،،
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،
* كاتب إسلامي مصري