كيف تكون إيجابياً فاعلاً مؤثراً
د.غازي التوبة
المسلم إيجابي وفاعل ومؤثر، وقد تأتّى ذلك عن طريق غنى النفس الذي يملكه، قد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" (متفق عليه)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "سبق درهم مائة ألف درهم" (رواه النسائي والجامع الصغير) فالدرهم الذي سبق كان أحد درهمين في حين أن المائة ألف درهم كانت جزءاً من ملايين الدراهم، وهذا الغنى النفسي هو الذي جعل من يملك درهمين أكثر كرماً من الذي يملك الملايين، وهذه الشخصية الإيجابية الفاعلة المؤثرة هي التي تواجدت في تاريخنا الماضي، فكانت ثمرة ذلك الأوقاف التي شغلت ثلث ثروة العالم الإسلامي، وكانت الانتصارات التي حفظت كيان الأمة، والتي تحقّقت بفضل التضحيات التي قدّمها أبناء هذه الأمة من دمائهم وأموالهم.
ولقد ذكر توينبي في دراسة له عن أفول الحضارات، فبيّن أن الحضارة تسقط عندما يخبو العطاء من الطبقة العليا في المجتمع، ويتحكّم الشحّ والبخل في هذه الطبقة، وبيّن مصداق هذه النظرة على عدد من الحضارات، وكان أوّلها سقوط الامبراطورية الرومانية، وإن استمرار عطاء الطبقة العليا من مجتمعنا الإسلامي هو الذي مكّن أمتنا أن تستمر لأكثر من ألف عام، وإن تحقّق هذه الصفة مرة ثانية شرط أساسي في عودة الفاعلية إلى أمتنا على أرض الواقع المعاصر. والسؤال الآن: كيف يتولّد الغنى النفسي الذي يُولّد بدوره الإيجابية والفاعلية والتأثير عند المسلم؟ يتولّد ذلك من الإيمان بالله، ومن الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تحقيق أركان الإيمان والإسلام، وهذا ما سنوضّحه في السطور التالية.
أولاً: دور الإيمان بالله تعالى في البناء النفسي للمسلم:
لقد حدّثنا القرآن الكريم والحديث الشريف كثيراً عن الله تعالى، فأخبرنا أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض، وبيّن الزمن الذي يهبط فيه الأمر، فقال تعالى: اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ . يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (السجدة،4-5)، وأخبرنا أنه خلق آدم من طين وأسجد الملائكة له فقال تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (ص،71-72)، وأخبرنا في آيات أخرى أنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وأنه خلق الإنسان وقضى الآجال، وأنه يعلم السرّ والجهر، ويعلم ما نكسب، فقال تعالى: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ(الأنعام،1-3). عندما يؤمن المسلم بأن الله خلق السماوات والأرض والعرش والإنسان والظلمات والنور فإنه يعظّم الله تعالى.
وعندما يؤمن المسلم أن الله خلق الأرض ذلولاً من أجل الناس، وفصّل الليل والنهار من أجل أن يحسبوا أيامهم، ومن أجل أن يعملوا في النهار، ويسكنوا في الليل، وسخّر المخلوقات جميعاً لهم، وخلق الأنعام ليأكلوا منها ويركبوها إلخ... يجعله كل هذا يتّجه بالحب إلى الله.
وعندما يؤمن المسلم أن الله هو الخالق لهذه الآيات العظيمة: السماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر, والإنسان، وغيرها كثير، وهو تعالى المسيّر لها الحافظ له، يجعله ذلك يثق بالله تعالى.
وعندما يؤمن المسلم أن الله مالك السماوات والأرض، وبيده تعالى خزائنها، وأنه تعالى كريم غني يجيب دعوة الداعي إذا دعاه يجعله ذلك يرجو الله تعالى.
وعندما يؤمن المسلم أن الله تعالى أهلك المكذّبين، وأنزل عليهم العذاب في الدنيا، وأنه أعدّ لهم عذاباً أشدّ وأنكى في الآخرة يجعله ذلك يخاف الله تعالى.
ثانياً: دور الرسول صلى الله عليه وسلم في البناء النفسي للمسلم:
لقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم دور عظيم في بناء المسلم النفسي، وذلك ناتج من اتصافه صلى الله عليه وسلم بأحسن الأخلاق وأعلى الصفات، وأفضل الشمائل، فقد وصفه تعالى بأنه على خلق عظيم فقال تعالى: ن والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجراً غير ممنون. وإنك لعلى خلق عظيم (القلم،1-4). ووصفه كذلك بأنه رؤوف رحيم فقال تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (التوبة،128). ووصفه بالبعد عن غلظة القلب فقال تعالى: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله (آل عمران،159).
كما بيّن الله تعالى في عدّة مواضع من القرآن الكريم أنه رحمة للبشرية، وأنه صلى الله عليه وسلم النذير والبشير والسراج المنير، فقال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء،107)، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً . وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً (الأحزاب،45-46).
إن صفات الرسول صلى الله عليه وسلم السابقة تترك آثارها في البناء النفسي للمسلم بالصورة التالية:
1- تعظيم المسلم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم لأنه رسول الله الذي حمل إليه رسالة الله تعالى التي لا تقدر بثمن.
2- حب المسلم للرسول صلى الله عليه وسلم لحسن أخلاقه وعظيم شمائله.
3- حرص المسلم على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به.
4- رجاء دخول الجنة باتباع سنته وتنفيذ أوامره.
5- خوف خسارة الأجر نتيجة الابتعاد عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: دور أركان الإيمان وأركان الإسلام في البناء النفسي للمسلم:
ثم يأتي دور الإيمان بأركان الإيمان، كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر في تنمية البناء النفسي للمسلم وإغنائه، ويأتي دور أركان الإسلام من إقامة للصلاة وإخراج للزكاة وصوم لرمضان والحجّ إلى البيت الحرام أيضاً في استمرارية الشحن والاغتناء النفسي ونحن سنوضّح بمثالين من كل الأركان السابقة من أجل عدم الإطالة على القارئ العزيز، وسيكونان: الإيمان بالملائكة، وركن إقامة الصلاة.
أ - دور الإيمان بالملائكة في البناء النفسي للمسلم:
حدّثنا القرآن الكريم والحديث الشريف عن الملائكة الحديث الكثير، فأخبرنا أنها مخلوقات نورانية لا تعصي الله تعالى، وتفعل ما تؤمر، وأنها تسبّح الله ولا تَفْتُر عن ذلك، وأن منها من يحمل العرش، ومن يقف على أبواب جهنّم، ومن يقبض الأرواح، ومن ينـزل بوحي الله كجبريل ، ومن ينفخ في الصور يوم القيامة كاسرافيل ، ومن يكتب الحسنات إلخ... والسؤال المحدّد الذي تهمّنا الإجابة عليه هو: كيف يبني الإيمان بالملائكة تأْليه الله تعالى في ذات المسلم؟
الخلق دليل قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته وخبرته إلخ...، فعندما يعلم المسلم أن الله تعالى قد خلق مخلوقات من نور تحيط به تسمعه وتراه، وهي عظيمة في خلقها، وفي قدرتها، وفي المهام التي تقوم بها يولّد ذلك تعظيم الله في قلبه. وعندما يعلم المسلم ويؤمن ويوقن أن الله تعالى سخّر بعض الملائكة لحفظه، يقول تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ (الرعد،11)، ويقول تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ (الأنعام،61)، وأنه سخّر تعالى بعضهم للصلاة عليه، ولإخراجه من الظلمات إلى النور، يقول تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (الأحزاب،43)، وأنه تعالى سخّر بعضهم الآخر للاستغفار له، يقول تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (غافر،7)، فعندما يعلم كل هذا يتولّد في نفسه حمد الله وشكره على هذه النعم التي لا تُقدّر بثمن، وينمو بالتالي جانبا التعظيم والحب في قلبه.
ويبني الإيمان بالملائكة تعظيم الله تعالى والخوف منه عندما يعلم أن الله تعالى سخّرها لمعاقبة الكافرين عند الموت، يقول تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (الأنفال،50)، وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (الأنعام،93).
ب- دور إقامة الصلاة في البناء النفسي للمسلم:
ورد الأمر بالصلاة منذ ابتداء الدعوة فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً . نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً . إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً . إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (المزمل،1-6). وقد بشّر الله تعالى الخاشعين فيها بالفلاح، فقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (المؤمنون،1-2)، وبشّرهم كذلك بالجنة يوم القيامة، فقال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ . كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الذاريات،15-18)، وحثّ القرآن المسلم أن يصبر عليها وأن يأمر أهله بها، فقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (طه،132)، وبيّن الله تعالى أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فقال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ (العنكبوت،45).
إن الصلاة مدرسة كاملة: يتطهّر فيها المسلم استعداداً للصلاة، ويتّجه إلى الكعبة أثناء أدائها، ويقف خائفاً قانتاً لله تعالى، ثم يركع ويسجد، ثم يختم صلاته داعياً ومستغفراً إلخ... كيف تبني الصلاة الجانب النفسي عند المسلم؟
تبني الصلاة تعظيم الله تعالى في ذاته لأنه يقتطع من وقته وجهده قدرين يسأل فيهما ربه أن يعطيه وأن يعافيه وأن يعينه، وتبني الخضوع لله تعالى لأنه يمتثل أمره
تعالى في الركوع والسجود وفي التطهّر بالصورة التي أمر بها وفي الوقت الذي أراده
تعالى، وتبني حبّه تعالى لأنه يحمده تعالى في صلاته على نعمه الكثيرة، وتبني رجاءه تعالى لأنه يسأله استمرار النعم التي أنعم عليه بها، ويسأله تعالى المزيد منها، كما يدعوه تعالى إن يُنعم عليه بالجنة، ويوجّه خوفه إليه تعالى من أن يسلبه النعم التي أنعم عليه بها أو من أن يعذبه في النار التي أعدّها.
بعد أن بيّنا كيفيّة تحقيق الاغتناء النفسي عند المسلم الذي هو الأصل في الإيجابية والفاعلية والتأثير سنحاول أن نبيّن آلية تحقّق هذه الإيجابية والفاعلية والتأثير في ثلاث دوائر:
1- دائرة الخير والشرّ.
2- دائرة العطاء.
3- دائرة الشجاعة الأدبية.
1- دائرة الخير والشرّ:
تتطلب صفة الإيجابية والفاعلية والتأثير من المسلم أن يقف إلى جانب الخير والخيّرين، وأن يبتعد عن الشر والشرّيرين، فكيف يحقّق المسلم ذلك؟ يدعو الشر المسلم إلى الوقوع فيه وارتكابه، ويزيّن الشيطان المعاصي له من سرقة وزنا وفجور وخيانة إلخ...، وتدعو النفس الأمّارة بالسوء ذلك المسلم إلى الوقوع في تلك المعاصي، لكن المسلم يتغلّب على دعوة الشرّ تلك بما يملك من غنى نفسي يتمثّل في تعظيم الله، من خلال تعظيم أمره في فعل الحلال واجتناب الحرام، ويتمثّل في الخوف من عقوبته في حال ارتكابه لتلك المعاصي، ويتمثّل في اليقين بعلم الله ومراقبته إلخ...، إن هذا الغنى النفسي هو الذي يبعده عن الشرور والمعاصي، ليس هذا فحسب، بل يدفعه ذلك الغنى النفسي إلى الحرص على الخير والطهر والاستقامة والوقوف إلى جانب الخيّرين مهما كانت العقبات، ومهما كانت التكلفة المطلوبة، لأنه يجد في ذلك حلاوة ما بعده حلاوة، إنها حلاوة مجاهدة الباطل، وثمرة الإيمان الذي يعمر قلب المسلم، وثمرة رجاء الفوز في الجنة.
2- دائرة العطاء:
تتطلّب الحياة من الإنسان أن يكون كريماً معطاءً لكي يكون إيجابيّاً فاعلاً مؤثراً فيما حوله، ولكن عندما يتطلّب الموقف كرماً أو تصدّقاً في مال أو علم، أو سعياً في حاجة ملهوف ما، أو إغاثةً لمنكوب، أو تنفيساً لكرب مكروب إلخ... يظهر جانب الشحّ والتقتير في النفس الإنسانية، ويدعو هذا الجانب الإنسان إلى البخل وعدم العطاء، ويزيّن الشيطان ذلك من الخارج، لكن المسلم يتغلّب على هذه العوامل بما يملك من تعظيم لله، وخضوع له، وحب للآخرة إلخ...، فلو أخذنا جانب الدعوة إلى التصدّق بالمال، فالمسلم ينفق مما آتاه الله لأنه لا يعظّم المال بل يعظّم الله الذي أعطاه المال، ولا يخضع لنفسه التي تأمر بالتقتير بل يخضع لله الذي أمره بالإنفاق، وهو لا يعتقد بضياع المال الذي أنفقه بل يعتقد بأنه سيلقاه في آخرته يوم لا ينفع مال ولا بنون، وهو يثق بأن الله سيُعوّضه خيراً مما أنفقه إلخ... وقس على ذلك بقية الأمور.
3- دائرة الشجاعة والأدبية:
تتطلّب الحياة من الإنسان أن يمتلك الشجاعة الأدبية التي تدفعه إلى قول الحق والصدع به، حتى يكون فاعلاً ومؤثّراً وإيجابياً، وتتولّد الشجاعة الأدبية عند المسلم من الغنى النفسي الذي يمتلكه والذي يتمثّل في تعظيم الله والخضوع له والخوف منه، فهو عندما يواجه موقفاً يتطلّب جرأةً وكلمة حق فيتنازعه هاجسان: الأول: يطلب منه أن يقول الحق إرضاءً لله، وخوفاً من عقابه إن لم يصدع بذلك الحق، وراجياً منه العون في مواجهة الرافضين لهذا الحق الذي سيصدع به: بأن يليّن قلوبهم، ويفتح بصيرتهم، ويهديهم إلى سواء السبيل إلخ... الثاني: الخوف من غضب الناس، وانفضاضهم من حوله، وتأثّر مصالحه الدنيوية إلخ... لكن المسلم يُغلّب الهاجس الأول بسبب الغنى النفسي الذي يملأ قلبه وعقله.
إن الامتلاء النفسي الذي يولّده الإيمان بكل شعبه وفروعه هو الأصل في الغنى النفسي، ثم تأتي أركان الإيمان وأركان الإسلام لتستمر في شحن قلب المسلم ونفسه بكل صنوفه: التعظيم لله، والخضوع له، والخوف من ناره ورجاء جنّته، وتوجيه الحب له سبحانه وتعالى، يأتي هذا الغنى النفسي وهذا الشحن ليكونا الأصل في دفع المسلم إلى الإيجابية والفاعلية والتأثير، لذلك نستطيع أن نؤكّد بأنه عندما تكون هناك نفس غنية بالإيمان سيكون هناك إيجابية وفاعلية وتأثير في مختلف دوائر الحياة.