وردةٌ.. في قلبي نبتت
سحر المصري
طرابلس - لبنان
وبثّ فيها ربي جل وعلا الروح.. في مستقر.. حتى إذا ما استوت واكتمل خَلقها.. خرجت إلى الدنيا تستنشق عبيرها.. مسلمة موحِّدة.. وحين رأيتها نسيت ما عاهدت نفسي أن أسميها به "آلاء الرحمن" لتكون "مريم"!
ومرّت الأيام بسرعة رهيبة.. وأينع الزرع وأثمر.. قلباً طائعاً وروحاً طيبة..
كانت تكبر كل يوم وأراها أمامي تتبدل فصولها لتصبح شابة يافعة لا تحدّ طموحها قيود.. وهدفها الأفق!
وبالرغم من أنها بلغت السادسة عشرة من عمرها.. إلا أنني ما زلت أراها طفلتي المدلّلة وأتساءل.. أيُعقل أن تكون هي تلك الرائعة الصغيرة.. ابنتي؟!
قد نحتاج أحياناً لمزيد عقل وواقعية لترجمة ما يدور حولنا.. ولاستيعاب تحوّلات كبيرة تحصل مضت فيها سنّة الكون.. وتأصّلت فيها مبادئه.. وقد لا نفقه –كأهل- أن صغارنا كبروا واشتد عودهم وخرجوا من عباءاتنا ليناقشوا ويحاوروا ويدافعوا عن أفكارهم ويبلغوا أحلامهم.. حتى لو كانت بعيدة عن محيطنا.. وأننا يجب أن نحترم رغباتهم في الابتعاد عن الأسوار التي زرعناها وروداً لحمايتهم.. إلا أنها لا زالت أسوارا تخنق!
ولأنها "فتاة" قد نبالغ في التضييق عليها إذ فسد المجتمع وحوى أكابر وأصاغر مجرميها.. مَن يتفنن في التقرّب ليحظى ببعض متعة.. وكلما زادت الأحاديث والأخبار عن سوء الزمان، كلما ضيّقنا على مَن نحب، خشية أن يلوّثن ولو قليلا.. إلا أن فراشنا لن يبقى حبيس الشرنقة.. وسيتحرر من الخيوط الحريرية آجلاً أو عاجلا.. وسينطلق مستعيناً بما زرعناه فيه من مفاهيم وقِيَم.. وحينها نحصد ما زرعنا في بادئ مراحل النمو.. فإن كان خيراً فخير.. وإن كان غير ذلك فلا نلومنّ إلا أنفسنا..
ولكن.. لا يُترك الأمر كله.. فلا بد من بعض متابعة وحماية دون أن نشد القبضة على أعناقهنّ.. بل هو حوارٌ وحوار وحوار.. وحب! ففي هذه المرحلة كم تحتاج فتياتنا المزهرات إلى فيض الحب والحنان والرعاية الطيبة.. والاحتواء برفق.. والإنصات باهتمام.. والتوجيه بحنان.. لئلا تشب الفتاة عن الطود وهي تحلم كيف تتخلص مما أحاط بالمعصم.. فتنزلق عند أول مفترق طرق أو تهرب عند أول فرصة تسنح لها بذلك..
قد نغضب.. وقد نثور.. ثم تصيب حِممُنا أكبادَنا التي تمشي على الأرض.. فتحرق مواضع راحتهنّ.. لنندم بعدها عما بدر منا في حقهنّ.. ونتساءل.. ما ذنبهنّ ليتحملن منا ما لا يطقن؟! فإن أدركتنا الخطوب ودار دولاب الفرح وحلّ الألم.. أيستدعي ذلك منا أن نفرغ مكنون أنفسنا في قلوبهنّ دون حتى أن نوضِح ما يجري وكيف انتهينا إلى ما فعلنا لنُعذر أمامهنّ؟
ما ذنب بناتنا إن نحن لم نتقن فن تقدير ذواتهنّ وإشعارهنّ بالمكانة العالية التي تنبغي لهنّ وتغذية ثقتهنّ بأنفسهنّ..
وما ذنب فتياتنا إن لم نفقه حاجتهنّ إلى الاستقلال عنا ليشعرهن بالمسؤولية التي كبرت مع عمرهنّ..
وما ذنب فتياتنا إن لم نؤمّن لهن الأمن والطمأنينة والإشباع العاطفي حتى يشعرن بأنهنّ في حماية فينطلقن في الحياة براحة وأمان..
وما ذنب بناتنا إن لم نحسن قراءة مشاعرهنّ وانفعالاتهنّ وعواطفهنّ.. وعاملناهنّ كما نريد نحن لا كما يردن.. وألبسناهنّ عباءة على مقاسنا لا مقاسهنّ! فكنّ كما نريد نحن لا كما يرغبن هنّ!
وما ذنب قلوبهنّ أن تجتر الأحزان جرّاء تفكك أسريّ أو طلاق فِعلي وصامت!
ثم نحاسبهنّ لأنهنّ فتّشن عن أحضان دافئة هرباً من الشوك في أحضاننا!!
وإن كان للمراهقة تقلّبات نفسية وجسدية وعاطفية وعقلية واجتماعية، ونحن كأهل ندرك ذلك جيداً، فلا أقل من أن نقرأ عن هذه التغيرات، لنملك أدوات التعامل معها بطرق صحيحة، لتنشأ بناتنا بشكل سليم دون أن تعانين من أمراض نفسية أو جسدية، سندفع ثمنها من أعصابنا قبل أن تدفع ثمنها البنات أنفسهنّ!
سألتني ابنتي يوماً وقد هالها ما تجد من علاقات غير مشروعة بين الجنسين حتى كاد الأمر يستشري ليصبح ظاهرة.. وكنتُ أرشد وأحذِّر من مغبّة هذه العلاقات غير الشرعية وأثرها في النفس والقلب.. حتى أنها كرهتها ثم سألت: "هل الحب حرام"؟ فأردت أن أوصِل لها الفكرة بيسر.. وقلت لها حين أشتري لك قميصاً جديداً فتلبسينه وأغسله.. ثم تلبسينه فأغسله.. وهكذا لمرات عديدة فهل يبقى القميص على ما هو عليه من جمال وبهاء؟ فأجابت: لا طبعاً.. فقلت كذلك القلب.. أكرمنا الله جل وعلا به وهو طاهر طيب.. فإن عدّدنا العلاقات سيُستَهلَك حتى يبهت لونه ويضعف.. ولن يعود للحب الحلال الطاهر وقع في النفس حين يُقبل على الزواج.. فلِم التسرّع وقطف الثمرة قبل استوائها؟!
لا بد من المسايرة.. والحوار.. وحين يكون بين البنت وشاب علاقة غير سوية، لا يكون العلاج بالضرب والقسوة، لأنها ستتشبث بالعلاقة أكثر، وتكملها خفية عن أهلها.. بينما إن عولِج الأمر بهدوء وعقلانية لانتهى بشكل إيجابي وفعّال..
يخطئ من يعتقد أننا نربي دون الاستفادة من هذه التجارب العميقة.. فنحن نتعامل مع أرواح وقلوب ومشاعر.. وفي كل يوم نكتسب خبرة جديدة مع هذه الزهور التي نسقي في بيوتنا فينتشر عبيرها في قلوبنا قبل محيطنا.. وحين نخطئ نتعلم من هذه الكبوة لنحسن التصرف في مرة قابلة..
وبقدر ما تكون التربية متعِبة أحياناً تكون ممتعة.. وكم نسعد حين نرى النبت وهو ينمو بسُقيا أرواحنا وقلوبنا التي تسيل عطفاً وحباً ورحمة..
ابنتي مريم.. ها هو العمر يمضي.. والسنين تمر.. وأنت تكبرين أمامي.. قطعة مني.. أريدها الأحلى والأروع والأتقى.. كما ترغب كل أم لابنتها التي استقرت في ظلمات ثلاث قدراً من الزمن، أدعو الله تعالى أن تكوني قد كتبت من السعداء يوم نفخ فيك الملك الروح.. ووصيتي لكِ أن تكوني مع الله جل وعلا.. كما يحب ويرضى.. وأن تعضّي على دينك بالنواجذ ولا ترضي دونه بديلا.. فإن أنتِ تمسكتِ بحبل الله جل وعلا فلن يضرك بعده شيء.. وسأكون مطمئنة حينها أن ابنتي في حفظ من لا يغفل ولا ينام..
"وإنّي سمّيتها مريم.. وإنّي أُعيذها بك وذريّتها من الشيطان الرجيم".. فاحفظها إلهي وأكرمها.. وأرضِها وارضَ عنها.. واجعل لها القبول في الأرض وارفع ذكرها في العالمين.. دنيا ودين.. يا الله!