السلام أين السلام
السلام !
أين السلام ؟!
د.عدنان علي رضا النحوي
[email protected]
السّلام ! الدعوة إلى السلام دعوة
قائمة اليوم تملأ الصحف والمجلات ومختلف وسائل الإعلام ، وتعقد لها المؤتمرات
والندوات .
وتمتدّ هذه الدعوة والأرض مليئة
بالحروب والصراع والمجازر ، بالحروب التي تُباد فيها مئـات الألوف في فترة
وجيزة في مناطق مختلفة من الكرة الأرضية . وتمتدّ هذه الدعوة إلى السـلام اليوم
، والمظالم أوسع امتداداً في الأرض ، واغتصاب الديار وطرد الشعوب ونهب الثروات
، يزداد كل يوم ، والفتنة في الأرض تمتدّ وتتسع بأشكالها المختلفة ، والفواحش
والمخدّرات والخمور تمتدّ كذلك .
إن هذه المظالم المروّعة الممتدّة في
الأرض تكاد توحي بأن السلام والدعوة إلى السلام شعار لم ينزل إلى الواقع منهجاً
عملياً علميّاً ليُتّبع ويُطَبّق في الواقع البشري .
ما هو السلام الذي يُدْعي إليه ؟ من
الذي يدعو إليه ؟ وكم استطاعت الدعوة إليه أن تأخذ صورة علميّة منطقية واقعية ؟
من أبسط الأمور وأسهلها تصوّراً
وإدراكاً أن السلام يتعذّر تحقيقه في الواقع البشـري إلا إذا توافرت شروط ثلاثة
على الأقل ، يمكن أن نوجزها كما يلي :
1.
أن يقوم السلام والدعوة إليه على الحقّ الواضح الذي يُعْرَف بالميزان العادل
الأمين الذي لا يتّبع الهوى والمصالح الشخصيّة الدنيوية .
2.
أن يؤمن الذين يدعون إلى السلام بهذا السلام الذي يقوم على الحق ، وأن يؤمنوا
بالحق نفسه ، وأن يدعوا إليه مع دعوتهم إلى السلام .
3.
أن تتوافر للذين يدعون إلى السلام القائم على الحق والذين يؤمنون به وبالحق
الذي يقوم عليه السلام ، أن تتوافر لهم القوة التي تحمي الحقَّ وتمنع الباطل
وتصدّه .
إن الدعوة إِلى السلام هي تمضي في
الواقع البشريّ ، فلا بدّ أن تأخذ الواقع بعين الاعتبار . ومن أهم ما يجب
الالتفاف إِليه في الواقع البشري أن هنالك دائماً أناساً مفسدين في الأرض ،
يدعون إلى الفتنة والضلال والشَّرَّ ، يدعون إلى كل ما يحمي مصالحهم الذاتيّة
الخاصة ، مصالحهم المادّية الدنيوية بكل وسيلة يستطيعون بلوغها ، وأنّ هنالك
أناساً يدعون إلى الحق والصلاح والخير ، ويمضي هؤلاء وهؤلاء في هذه الحياة
الدنيا على سنن لله ماضية وحكمة بالغة وقدر غالب ، وتظل مسؤولية الإنسان الذي
عرفَ الحق واتبعه ونبذ الهوى وتركه أن يجاهد حتى تعلو كلمة الحق . ويكون موقف
الإنسان أمام هذه السنن الربانيّة ابتلاءً من الله وتمحيصاً له ، حتى تقوم
الحجّة على الإنسان أو له يوم القيامة .
إِن الحقّ في هذا الكون والحياة و احد
، لا يمكن أن يتناقض أو يتعدَّد من حيث المبدأ والنهج .
إِن أَوّل من دعا إِلى السلام في تاريخ
البشريّة كلها هو الله الذي لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى كلُّها . فلقد
كان : " السَّلام " اسماً من أَسماء الله الحسنى ، وسمّى الله الجنّة "
دار السلام " ، وشرع الله سبحانه وتعالى نهجاً محدّداً للسلام ، وجعل
السلام تحيَّة عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة .
(
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ )
[ يونس : 25 ]
( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ
وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [ يونس
: 10 ]
وفي الدعاء بعد الصلاة :
" اللهمّ أنت السلام ومنك السلام
تباركت يا ذا الجلال والإكرام "
وفي التشهد في الصلاة " ... السلام
عليك يا أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين "
. وفي الخروج من الصلاة بعد التشهد يقول المسلم " السلام عليكم ورحمة الله "
عن اليمين وعن الشمال .
وتمضي تحيّة الإسلام : أبد الدهر :"
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " ! فالله سبحانه وتعالى هو السلام ، والسـلام
من الله ، ودعوة السلام الحق من عند الله ، إنها الإسلام بتكامله وتناسقه وترابطه .
في واقعنا اليوم مذاهب شتى متصارعة .
وهذا الصراع كان ممتداً مع التاريخ . وكان غير المسلمين مع اختلاف مذاهبهم لا
يعاملون المسلمين إذا تمكنوا منهم إلا بالقتل والذبح والتشريد ، والظلم والعدوان ،
ونهب الثروات . وهذا تاريخ المسلمين في الأندلس وتاريخ المذابح التي دارت فيهم .
وهذا تاريخ الحروب الصليبية ، والهند ، وهذه البوسنة والهرسك ، وكشمير ، والفلبين ،
تاريخ طويل ، لم يعتمد فيه غير المسلمين إلا الحرب والقتل في المسلمين . وأما تاريخ
الإسلام في الأرض فهو الصورة الوحيدة لدى البشريّة كلها ، الصورة التي لم تعتمد
الفتك والظلم والقتل ، وإنما اعتمدت الدعوة إلى الله ورسوله ، وجعلت الجهاد في
سبيل الله باباً من أبواب الدعوة إلى الله ورسوله ، إلى الإيمان والتوحيد ، إلى
الحقّ من عند الله ، إلى السلام الذي يقوم على هذا الحق . وكان الجهاد في سبيل الله
يستخدم القوة حيث يجب أن تُسْتَخدم ، على أطيب وأطهر قواعد عرفتها البشرية للحروب
والقتال ، وعلى أعدل نهج ، على قواعد ونهج لم تستطع البشرية أن تبلغها اليوم مع
حضارة القرن الحادي والعشرين ومؤسسات حقوق الإنسان ، ومنظمات عديدة في الأرض ، ملأت
الدنيا شعارات ، وأفقرتها عدالة وسلامـاً ، وحرمتها الأمن والأمان ، وتركت مئات
الملايين مهددين بالموت جوعاً ، وقلّة مجرمة في الأرض متخمة .
واقعنا اليوم يشهد صراع المصالح
المادية ، بين الدول الكبرى التي تملك القوة والسلاح المدمّر ، والأجهزة والمؤسسات
التي تخطط ليل نهار لإشعال الصراع بين المصالح المتضاربة ، الصراع الذي يذهب ضحيّته
الضعفاء الذين يستغلّهم الكبراء ، استغلالاً مباشراً أو غير مباشر .
في واقعنا اليوم ، نشهد الميزان الذي
توزن به قضايا الشعوب وحقوقهم ومصالحهم ، ميزاناً متعدّد المكاييل ، هنا مكيال
وهناك مكيال آخر ، ومكيال ثالث ورابع ، حتى تعدّدت المكاييل تعدّداً ظاهر التناقض
والظلم ، لا يعقل أن يكون قائماً على الحق ، ولا يُعقَل أن يدعو إلى السلام دعوة
حقيقية إنسانية .
يوجد في واقعنا اليوم ما يُسمى
بالديانات المختلفة : وثنيّة واضحة بوثنيّتها، وإلحاد وكفر واضح الإلحاد والكفر ،
وعَلمانية تدعو إلى الحجر على الدين في الكنائس والبيوت ، ليكون قضيّة فرديّة لا
علاقة له بالمجتمع وميادينه ، إلا حين تدعو المصالح الدنيوية لاستغلاله ، ومذاهب
أهل الكتاب ، والدين الواحد الحق من عند الله ، دين جميع الأنبياء والمرسلين ،
الإسلام .
نستطيع أن نقول إن الدين جاء من عند
الله ليبلَّغ للناس كافة ، لأنَّ الدين يُقَّرِّر أخطر قضيَّة في حياة كلِّ إنسان ،
وأَكبر حقيقة في الكون . إنه يقرر أن هنالك بعد الموت بعثاً وحساباً ، وجنّةً أو
ناراً . فمن آمن بذلك ، فلا بدّ له أن يتحرَّى الحق ويدع الهوى والشهوات ، حتى يعرف
الحق ويؤمن به ويتبعه ، وإن الخطأ في هذا الأمر ليس كأيّ خطأ . إنه هلاك يخلد فيه
الإنسان في النار إذا مات على غير دين الله الحق . فالأمر جَلَلٌ ! .
الله واحد أحد . هو الله الذي لا إله
إلا هو ، ليس كمثله شيء ، هو الخالق المدبّر للكون كله . وما عداه مخلوقات !
الله واحد حقٌّ يقضي بالحق ، رحيم ،
فإن قضاءه بالحق وإن رحمته ، وإن أسماءه الحسني كلها ، تدعو إلى أن يكون الدين من
عند الله واحداً لا أكثر . فإذا كان بين أيدي الناس اليوم ديانات يدّعي أصحابها
أنها من عند الله ، وإذا كان بين هذه الديانات أيّ اختلاف في التصوّر والمنهج ، فلا
بدّ أن يكون هنالك دين واحد فقط حقٌّ ، فلا يُعقل أن يكون ما يأتي من عند الله
متضارباً مختلفاً . فهذا يناقض رحمة الله بعباده وعدله ، ويناقض أسماءه الحسنى .
ولا يُعقل أن يبعث الله لعباده أدياناً مختلفة يتصارع الناس عليها.
ولكن يمكن بسهولة ويسر أن نقول إن الله
بعث رسلاً مبشرين ومنذرين ، منهم من قصَّ الله نبأهم ومنهم من لم يقصص ، جاؤوا كلهم
بدين واحد من حيث أسسه وقواعد الإيمان والتوحيد وما يبني عليها من أحكام ، وكان
كلُّ نبيّ يرسل إلى قومه خاصة . ومن البداهة أن يُختم الأنبياء والمرسلين بنبيّ
خاتم تكون رسالته مصدّقة لما بين يديها وجامعة لها ومهيمنة عليها ، لتكون رسالة
للعالمين ، للناس كافة ، وأن يكون تشريعها تشريعاً خاتماً للبشريّة كلها ، يصلح
للعصور التالية حتى قيام الساعة ، وأن يكون معجزاً لا تختلط نصوصه بنصوص البشر ،
وأن يكون ميسّراً لمن آمن وصدق إيمانه وعرف لغته .
إن هذا الدين الواحد هو الإسلام . إنه
دين الحق الكامل الذي لا يحمل أي تناقض ولا تضارب . إن كتابه هو القرآن الكريم
المعجزة الكبرى ، لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله .
وسائر الديانات السابقة ، إذا كان
بينها اختلاف ، أو بينها وبين الإسلام ، فإن الاختلاف من صنع البشر أنفسهم وليس من
عند الله .
(
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ
يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) [ آل عمران :19]
(
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )
[ آل عمران :83]
كذلك :
(
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
[ آل عمران :85]
ولا يحلُّ للمسلمين أبداً أن يبحثوا
عما يظنونه حقّاً خارج دين الله . ولا يحلّ لهم أن يتبعوا هؤلاء وهؤلاء من أهل
الكتاب ، فالله سبحانه وتعالى يخاطب أهل الكتاب في سورة آل عمران خطاباً جليّاً ،
ثم يخاطب المؤمنين ليبيّن لهم الصراط المستقيم :
(
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ
عَلَى مَا تَعْمَلُونَ . قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا
فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ . وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى
عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ
هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
)
[ آل عمران :98ـ 105]
هذا هو الحق من عند الله !
لا مجال فيه للمجاملات والحذف والتغيير والتنازلات . آيات بيّنات ، حق ، وضوح وجلاء
، بيانٌ فاصل حسم !
هكذا يريد الله من عباده
المؤمنين أن يبلّغوا رسالة الله إلى الناس كافّة ويتعهّدوهم عليها على مدى العصور
والأجيال ، لا يكتمون شيئاً ، ولا يمارون ، يقولون الحق بصدق ووضوح وجلاء ، بالحكمة
والموعظة الحسنة ، ومن الحكمة أحياناً صدق الجهاد في سبيل الله بالكلمة الواعية
الصادقة ، وبالقوة التي تصدّ المنافقين والمتآمرين والمشركين والكافرين ، الذين
ظلوا أبدا الدهر هم المعتدين :
(
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ
)
[ التوبة :10]
إن كثيراً من الناس يشغلون فكرهم
ووقتهم وحياتهم في قضيّة أو أكثر من قضايا الدنيا ، ويهملون أمر الدار الآخرة
ومصيرهم فيها ، أو ينسونها ، أو يعزلونها عزلاً عن شؤون حياتهم ، ويدعون الناس كذلك
إلى عزلها ، فما هو السلام الذي يدعون إليه إذاً ؟! وعلى أيّ أسس يقوم ؟ ومن أولئك
الذين يدعون إلى السلام ؟!
من المظاهر المقلقة المتناقضة في
الدعوة إلى السلام ، أنَّ من بين من يدعون إليه هم المجرمون الذين يملؤون الأرض
حرباً وعدواناً . إنهم هم الذين يحاربون الدين بوسائل مباشرة وغير مباشرة ، وفي
الوقت نفسه يدعون إلى تقارب الأديان . إنهم هم الذين يملكون السلاح المدمّر الفتاك
ويحرّمونه على غيرهم ، ويقولونها صريحة مدويّة إن مصالحهم هي أول شيء يهمهم وآخر
شيء وكلّ شيء .
إِن كثيرين ممن يدعون إِلى الفتنة
والفساد والجريمة في الأرض ، يعرفون الباطل وأنه باطل فينصرونه ، ويعرفون الحقَّ
وأنه حقٌّ فيحاربونه . إنهم يعبدون مصالحهم الدنيوية المادية الاقتصادية ، ويتخذون
ما عداها شعاراً يخدِّرون الناس به ليلهوهم عن جرائمهم ، أو أدارة يستغلّونها من
أجل تأمين مصالحهم ، أو دعوة يضللون بها الناس عن الحق لينصرفوا عنه .
إن هؤلاء عرفوا من خلال تجاربهم
الطويلة مع الإسلام ، أن الإسلام الذي أُنزل على محمد
r
هو الدين الوحيد الذي يدعو إلى الحق ويأبى المساومة والمراءاة
والتنازل ، وأنه لا سبيل للتعامل معه إِلاَّ بالإيمان به ، والإيمان به يعني
التنازل عن بعض مصالحهم الدنيوية ليرتفع مستوى المسحوقين في الأرض ، والمهددين
بالموت جوعاً ومرضاً ، وليُنقذوا .
لا سبيل لهم للتعامل مع الإسلام ـ دين
الله الحق ـ إلا أن يخضعوا له ، حتى يُنصِفهم كما ينصف سائر الناس .
في الإسلام لا انفصال أبداً بين قضايا
الدنيا وبين الدار الآخرة . إن الإسلام منهج متكامل يبني قضايا الدنيا من خلال
ارتباط الدنيا بالآخرة . وتبرز أهمية هذه النظرة حين ندرك مثلاً أن الاقتصاد في
الدنيا إذا انعزل عن الإيمان والتوحيد ورسالة الإسلام فهو ربا وأزمات اقتصادية ،
وإذا ارتبط برسالة الإسلام كان طهارة وزكاة وعدلاً ورحمة . والسياسة تكون هناك
خداعاً ومكراً ومؤامرات وصراعاً قاتلاً على الدنيا ، ولكنها في الإسلام أمانة
يحملها المؤمنون ليسوسوا الناس على الحق والعدل والحرّية الصحيحة . والسلاح خارج
الإسلام حرب ظالمة ومجازر دامية ، ونهب وهرج ومرج ، وفي الإسلام قوة للحقِّ لتثبيته
وصدّ للباطل وإنكار له . وهكذا تختلف النتائج كليّة في الحياة الدنيا بين منهجين
مختلفين . وكذلك تختلف في الآخرة .
إن الدعوة إلى تقارب الأديان جاءت بعد
أن استكمل أعداء الله تمزيقهم للعالم الإسلامي وجرّدوه من قواه واحدة بعد الأخرى :
جرّدوا الكثيرين من اللغة العربية .
حتى هجر المسلمون منهاج الله ، فضعف الإيمان والتوحيد واختلطت معانيه . ودخل الغزو
العسكري والفكريّ بزخارفه وجيوشه وسلاحه وإعلامه ، فتسلل الفكر العَلماني إلى واقع
المسلمين .
فإن كثير من المنتسبين إلى الإسلام لهم
عقول عَلمانية وقلوب غربيّة وأسماء إسلامية . وإذا كثير من الذين يحملون عاطفة
صادقة للإسلام يحملون معها فكراً غير صادق وتصوراً مختلطاً بالعلمانية . وإذا كثير
من المنتسبين إلى الإسلام يخدمون أعداء الإسلام عن وعي وعن غير وعي . وإذا كثير من
المسلمين اختلطت تصوراتهم فتحوّلوا شيعاً وأحزاباً يحارب بعضهم بعضاً سرّاً وجهراً
، كيداً ومكراً . فذهبت ريح المسلمين ووهنت قواهم وتداعت عليهم الأمم كما تداعى
الأكلة على قصعتها .
ولم يكتفِ أعداء الله بذلك ، بل مضوا
يغذّون المؤامرات والفتنة بين المسلمين ، فيمدحون هذا ويؤيدونه ، ويذمُّون هذا
ويخذلونه ، في ظاهر ما يفعلون. وفي الخفية والسرّ قد يعكسون الموقف ، ليثيروا
الفتنة والشقاق ويقع المسلمون ضحيّة هذه المؤامرات وهذا الكيد والمكر .
وكان اليهود أخطر من يتبنّى هذا المكر
والفساد في الأرض ، حتى امتلأ تاريخهم منذ القديم بهذا الإِفساد في الأرض ، وما
زالوا يتّبعونه اليوم مع الأفراد والشعوب .
وكانوا كلما أقاموا في بلد يظهرون
الولاء لهذا البلد ، ويمكرون ضده مع أعدائه سرّاً ، ثمَّ جهراً ، حتى عُرف هذا
الغدر صفة شرّيرة من أسوأ طباعهم . حالفوا الرومان وغدروا بهم ، حالفوا الفرس
وانقلبوا عليهم ، وكذلك مع سائر الأمم والشعوب في تاريخ طويل .
ولقد كشف القرآن الكريم مكرهم هذا ،
وكشف سوء طويتهم وشدة نقضهم لعهودهم :
( أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لا يُؤْمِنُونَ )
[
البقرة : 100]
من الذي يريد السلام ؟! إن الذي يريد
أن يسيّر العالم كله لمصالحه الخاصة الدنيويـة على حساب الشعوب الضعيفة لا يمكن أن
يريد السلام إلا شعاراً !
وأين هو السلام ؟! هل يُعقل أن نجد
السلام بين أنياب الذئاب ومخالب الوحوش ؟!
لا يحمل السلام ولا يدعو إليه إلا
الإسلام وحده ، فإِن كان العالم يريد السلام فليركض إلى الإسلام وليتدبره ويعلمه ،
وليؤمن به ، ثم يلتزمه ، فحينئذ يقوم السلام !
يرى بعضهم أن السلام هو أفضل الظروف
لانتشار دعوة الإسلام ([1])
ويحاولون الاستشهاد ببعض فترات التاريخ الإسلامي ، مثل فترة الدعوة الإِسلامية في
مكة المكرمة . ولكنّ هذه الفترة لا نستطيع تسميتها فترة سلم . كان الإيذاء والعدوان
والظلم من الكفار على أشدّه . وصلح الحديبية لم يكن إشاعة للسلم والسلام . إِنما
كان هدنة . وكان كل فريق يدرك أن القتال ممتد والاستعداد له ماض . كان صلح الحديبية
فتحاً عظيماً للدعوة الإسلامية لأنه كشف قوة المسلمين وعزّتهم وهوان المشركين من
قريش . ولقد جرى صلح الحديبية بعد أن سجل المسلمون نصراً بعد نصر ، وعزة بعد عزة ،
ولم يأت بعد هزائم تتوالى . إن هذه الظروف كلها كانت برحمة من الله في صالح
المسلمين وليست في صالح المشركين ، حتى اضطرت قريش أن تقبل بما لم تكن تقبل به قبل
ذاك ، وهو عودة المسلمين في العام المقبل للعمرة . إن صلح الحديبية أكد نصر
المسلمين في المعركة المقبلة كما انتصروا قبله . فصلح الحديبية لا يقاس عليه واقع
المسلمين اليوم ، وهم يعانون من هزيمة بعد هزيمة . لم يكن صلح الحديبية إقراراً
للسلام ، وإنما كان إقراراً للعداوة الثابتة بين الإسلام والشرك . وإقراراً لهدنة
يستعد كل طرف للجولة القادمة ، الجولة التي كان كل فريق متيقناً أنها قادمة . كيف
لا ، والهدف الرئيس للمسلمين هو فتح مكة المكرمة كما وعدهم الله .
وخلاصة ذلك أن الإسلام يمكن أن ينتشر
في السلم كما ينتشر في الحرب . إلا أن الإسلام فرض الجهاد في سبيل الله لنشر رسالته
وإعلائها وإعزاز دين الله .
والسلام ، من حيث الواقع ، لا يتم بين
قويّ معتد ظالم وضعيف . إن هذا لا يكون سلاماً . ذلك لأن الله أنبأنا أن الحرب بين
المسلمين والكافرين ماضية يشعلها الكافرون ، فهم المعتدون دائماً .
وأخيراً هنالك فرق كبير بين السلام
الذي يريده الإسلام ولا يريده الكافرون وبين الاستسلام .
وانظر ما يقول " نيكسون " رئيس
أمريكا السابق ـ في كتابه " نصر بلا حرب " : ( ليس السلم الحقيقي إنهاء
المنازعات بل هو وسيلة للعيش معها ) ([2])
فالمجرمون في الأرض لهم نمط واحد من
التفكير : مصلحتهم الدنيوية أولاً وأخيراً ، الاعتداء والظلم على الشعـوب ،
والاختلاف على تقسيم الغنائم أو الاتفاق ، وَهلاك المستضعفين بينهم .
إن المجرمين في الأرض لا يمكن أن يكون
السلام لديهم أكثر من " شعار " يخدّرون الناس به . وإذا أراد المسلمون اليوم حماية
أعراضهم وأطفالهم وبلادهم فما عليهم إلا أن يعدّوا العدّة بكل قواهم ، فمن لا عدّة
له يُسحق تحت أقدام المجرمين الظالمـين المعتدين . وانظروا ماذا يجري هنا وهناك في
الكرة الأرضية .
يقول أحد رجال العرب في حديث نشرته
إحدى الصحف اليومية : " كان اليهود يعلنون رغبتهم بالسلام ويعملون للحرب ، وكنا
نعلن الحرب ونعمل للسلام " !
(1)
فيصل المولوي : الأسس الشرعية للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين :
(ص:19ـ25 ) .
(1)
نيكسون : " نصر بلا حرب " : (ص : 39) .