قررت قراري النهائي فلا تشوشني بالحقائق والبراهين
قررت قراري النهائي
فلا تشوشني بالحقائق والبراهين
د. أحمد الجباوي
كتب أحد الأصدقاء على صفحته الخاصة عبارة أضحكتني ولكنها ما لبثت أن أشجتني عندما ذكرتني بحال كثير من الناس الذين تكون استنباطاتهم المستقاة من أحداث الحياة هي ضد ما ينبغي لها أن تكون من استنباطات. كتب صديقنا ساخراً "قرأت الكثير عن أضرار التدخين لذلك...قررت التوقف عن القراءة". القراءة عن اضرار التدخين حدث مهم و المنتظر منه أن يقود إلى التوقف عن التدخين وليس التوقف عن القراءة. فهل يعقل أن تقود تلك القراءة إلى سلوك مضاد للسلوك المتوقع بعد القراءة؟!! ومع أن هذا المثال لا يحتاج إلى دليل على مخالفته للمنطق والعقل إلا أن معضلتنا اليوم هي في التحدي الهائل في تغيير قناعات كثير من الناس في أمور اعتادوا أن يسلموا بها ويؤمنوا بصحتها على الرغم من مواجهتهم بالبرهان والدليل على بطلانها. يذكرني ذلك بالعبارة الأمريكية الشهيرة: "My mind is made up. Don’t confuse me with the facts" أي أنني قررت قراري النهائي فلا تشوشني بالحقائق والبراهين. وتعود قصة هذا المثل الأمريكي إلى أحد البارزين في مجال الدعاية والتسويق وإسمه "Roy S. Durstine " عندما دعاه أحد الزبائن ليلخص له نتائج بحثه في تسويق منتجاته التجارية. فقام الخبير بإظهار الأدلة القاطعة على فشل السياسات التسويقية المتبعة من قبل الادارة بل وإمكانية تسببها في كارثة حقيقية. وعلى الرغم من تقديم الأدلة الدامغة على صحة ما يقول إلا أن القائم على الشركة أصر على المضي قدماً بسياساته المتبعة ولم يعر كل ما قدم له من براهين وأدلة أي إهتمام. وكانت المفاجأة عندما سأله الخبير "ماذا تقول إذاً في كل هذه البراهين الساطعة؟؟" فما كان منه إلا أن تناول سيجارة من جعبته ثم قال: "لا تشوش علي قراراتي بالأدلة والحقائق".
ولا بد أننا خضنا في كثير من الحوارات مع من يختلفون معنا في آرائهم و قناعاتهم وتبادلنا معهم وجهات النظر وقبلنا منهم وقبلوا منا وأعرضنا عن بعض مسلماتهم وأعرضوا عن بعض مسلماتنا فأعذرناهم و أعذرونا. ولكننا لا يمكن أن نتغافل عن فداحة خطأ الإعراض عن البرهان والدليل لما في ذلك التغافل من نتائج كارثية على المجتمع بأسره. فكم من دماء سفكت وأعراض انتهكت بسبب عدم تغيير قناعاتنا في أمور قد أجلاها البرهان أو كشف عنها الدليل والبيان. وإذا عدنا إلى الأحداث الجسام في تاريخ المسلمين لوجدنا أنهم أخذوا على غرة من أمرهم عندما استطاع أعداؤهم أن يخدعوهوم بقائد أو جماعة و إيهام جماهيرهم بالسير وراء "الملهمين" منهم لتكتشف الجماهير بعد ذلك أنها ما كانت إلا كالنعاج تسمن قبل أن يقوم الملهمون بنحر من شد أزرها ومكن لها. الدولة العبيدية التي أعملت القتل في علماء الامة وعامتهم نسبت نفسها إلى فاطمة بنت رسول الله وادعى مؤسسها أنه شريف علوي فاطمي وقام الملحد مصطفى كمال أتاتورك بالقضاء على الخلافة الإسلامية بعد أن أصبح لقبه الغازي وقام جمال عبد الناصر بقتل صفوة المسلمين وتعذيبهم بعد أن خدع عامة الناس وبايع الاخوان المسلمين على تحكيم شرع الله وجاء حزب البعث إلى السلطة ليهلك الحرث و النسل بعد أن ملأ الدنيا نعيقاً بضرورة وحدة العرب وحريتهم وتحرير أرضهم المحتلة و أنشئ "حزب الله" ليكون نواة المقاومة و إعادة الحقوق المغتصبة ثم ليقوم بارتكاب أفظع جرائم القتل بحق المسلمين في سورية و جاء السيسي وادعى أنه "حافظ للقرآن ومحافظ على صلاة الجماعة " ليبايع رئيسه المنتخب و يقسم على حماية الرئيس و الوطن و الشعب فإذا به يكشر عن أنيابه و ينقض عهده و يغمس يديه في بحار من الدماء و جاءت "الدولة الاسلامية" لتطبق شرع الله وتذب عن أعراض المسلمين فإذا بها تقتل أهل الجهاد وتعيث في الأرض فساداً ..... كم جادل كثير ممن اصبحوا ضحية لهؤلاء في إثبات صدق جلاديهم وناحريهم و اخلاصهم لله قبل أن يكتشفوا أنهم أشد عداوة للمسلمين من أعدائهم الآخرين. كنا نظن أن من اكتوى بنار الخيانة بهذا المقياس الهائل فإنه سوف يكون على مستوى سامق من الوعي والذكاء وإذا بنا نفاجأ أن هؤلاء الضحايا لا يمانعون أن يكونوا فريسة أخرى لكل كذاب أشر. ومع أسفي لكل ما يحل بالمسلمين من عذابات وأحداث جسام إلا أنني أعجب كل العجب من مكر أعدائنا وفهمهم العميق لموضع أكل أكتافنا. وإنه لمن المؤلم بل المفجع أن ترى عقول كثير من رجال هذه الامة ونسائها لا تريد أن تقبل أي دليل ولا برهان على بطلان ولائها لأعدائها وتستمر في غيها ولسان حالها يقول: "قررت قراري النهائي فلا تشوشني بالحقائق والبراهين".