مديرو مدارس
أنا أيضاً ما أزال أذكر مدير مدرستي الأستاذ أبو حطبة، وهو اسم الشهرة طبعاً الذي يطلقه الطلبة على مديري مدارسهم تعبيراً عن حالة الشد والجذب التي كانت سمة العلاقات بين الطرفين في المدارس الثانوية. أذكر طلته الصارمة وتهديداته المتكررة كل صباح التي سرعان ما تجد طريقها للتنفيذ اذا ما تأخر أحدنا عن الطابور الصباحي. بالكاد استطعت تجنب الحجر الذي سدده باتجاه يوسف البربراوي الذي اصبح طياراً اليوم.
أتذكر أيضاً أنني رغم هذه الصرامة التي كانت تبدو عدائية، ماأزال احتفظ له بالكثير من الاحترام. تماماً مثل زملاء كثر أصابتهم حجارة ( أبو حطبة) لكنهم اليوم أصبحوا أطباء ومهندسين وقانونيين أظنهم يقدرونه مثلي.
ماذا عنكم! ألا تقفز إلى أذهانكم صور مديري مدارسكم وأسماء الشهرة التي كنتم تطلقونها عليهم كلما نظرتم إلى مدارس ومديري اليوم واضطررتم لمقابلة مدير للمدرسة الخاصة التي سجلتم بها أبناءكم.
اسأل وقد أثارتني صور عديدة مؤلمة لواقع مدارس خاصة اليوم، حيث العلاقة بين الشكل والمضمون في اسوأ أحوالها. وحيث التركيز منصبٌ باتجاه النشاطات، وأناقة "المس" ونوعية الموسيقى التي يدخل على وقعها الطلبة إلى صفوفهم. والرحلات والأيام المفتوحة وغير المفتوحة. أما المضمون وعملية التربية والتعليم ففي أخر الأولويات.
حوار طويل دار بيني وبين مديرة إحدى أكاديميات عمّان الخاصة نَسِيَتْ في خضم انشغالها بمظهرها وشكل مكتبها أن تولي ذات الاهتمام لبعض قضايا التحصيل لدى طلبة صغار باتوا يكرهون الذهاب إلى المدرسة. ويتذرعون بكل الحجج للغياب، سألتها لماذا لا تدرسون هذه الظاهرة وأسبابها. ثارت السيدة مؤكدة بأنها لا تسمح لأحد أن يتدخل في أسلوب ادارتها وأطلقت مقولتها (المؤثرة فعلاً)،"بأن الشيء الوحيد الذي نعدكم به أن نستمر في الخطأ".
تذكرت وقتها أستاذ الرياضيات (...) الذي كان وراء كراهيتي الشديدة لهذا العلم. وأستاذ الجغرافيا (قيمر القيمري) الذي فعل ببساطته وحضوره ومعرفته العكس تماماً.
تساءلت بعد لقائي مع تلك المديرة (الطاووس)، أن في زمن ما كان هناك مديرو مدارس ترتجف لكيانهم أركان المدرسة بأكملها، كل صباح وبائعو الذرة والفول المسلوق خارج سور المدرسة وحتى.. أولياء الأمور، كان الكل يحسب لهم (ألف حساب) إن غضبوا أو تجهموا. ويسعدون كلهم لو فلتت منه ابتسامة نادرة أو نكتة قديمة فيضطرون للمشاركة في الضحك..
أن في زمن ما كان مدير المدرسة هو المرجعية الأولى لكل قضايا الطالب في دراسته وحتى في تفاصيل حياته، فكان الأب الذي تغلبه شقاوة أولاده يشكوهم إلى المدير والأم التي لا تملك حيلة أمامها تهددهم بالمدير، والإمام الذي يستفقد أصواتهم خلفه في الصلاة، يفتن عليهم للمدير.
مزيج من الكراهية والإعجاب تحدد معالم فهمك ونظرتك لهذه الهيبة والحضور و(الكاريزما) العفوية، ولهذه الأبوية شديدة الحميمية التي تفاجئك عندما تودع ذلك المديرعند آخر أيام الدراسة،أو حتى ان التقيته بعد سنين وعَرَّفتَهُ على نفسك، لتكتشف انه ليس بتلك الضخامة ولا بذلك التجهم.
الدكتور خالد الكركي وزير التربية والتعليم قادر كما أعتقد على تحقيق ما أسماه بالثورة البيضاء في المدارس، لكن أين ما يجري وراء أسوار الأكاديميات والمدارس الخاصة التي تحكمها أهواء مديرات لا يعدن إلا بمواصلة الأخطاء. وعدم الاكتراث إلا لألوان الخلفيات المعلقة على مسرح المدرسة.
تذكرت أيضاً أن في زمن ما كان المدرس يركض إلى الباب قبل الطالب لأن عقاباً سيطاله هو ايضاً لو تأخر. وأن المدير بشخصيته المهيبة وعصاه الغليظة ونظراته الحادة، كان دائماً بالمرصاد لكل خطأ ومن أي جهة.
رأيت ايضاً مديرات مدارس خاصة مؤخراً، تُرفُع لهن القبعة، وهن لكل الأسف، قلة بين هذا الحشد المفتون بجهله من مديرات ومديرين آخرين هم غالباً يعرفون أنفسهم ويدركون إمكاناتهم.
التقيت بتربوية سمعت عنها طويلاً اسمها (ديانا فرنجية) فشكرتها لأنها ذكرتني بعائشة حجازي التي كانت حضورا تربويا طاغيا في مدارس عمان الثانوية وقائمة الأسماء طويلة لمن يحتاجون منا أن نستذكرهم ونكرمهم أيضاً. شكرتها بالفعل لأنها أعادت لي الكثير من صور مدير المدرسة الحازم ذي الهيبة والمعرفة وخفة الدم التي تخفيها صرامةٌ مطلوبة لجيلٍ يجبُ أن يحب التعليم والنجاح والإبداع.