النداء الثامن عشر
اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ
رضوان سلمان حمدان
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران (200)
المعاني المفردة(1)
اصْبِرُواْ: الصبر: حبس النفس على طاعة الله ورسوله.
وَصَابِرُواْ: المصابرة: الثبات والصمود أمام العدو.
وَرَابِطُواْ: المرابطة: مصدر رابط رباطاً إذا حبس نفسه في ثغر من ثغور المسلمين يحرسها من مداهمة العدو الكافر لها. ورابطوا: اثبتوا وداوموا. وأصل المرابطة والرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم في الثغر كل يعد لصاحبه فسمي القيام بالثغور رباطاً.
تُفْلِحُونَ: تفوزون بالظفر المرغوب، والسلامة من المرهوب في الدنيا والآخرة. و " الفلاح " كما قلنا: مأخوذ من فلح الأرض. وفلح الأرض هو شقها لتتعرض للهواء، ولتكون سهلة هينة تحت الجذير البسيط الخارج من البذرة، فإذا فلحت الأرض بهذه المشقة حرثاً وبذراً وتعهداً بالري ماذا يحدث لك من الأرض؟ إنها تؤتيك خيراً مادياً مشهوداً ملحوظا.
في ظلال النداء
إنه النداء العلوي للذين آمنوا . نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء . والتي تلقي عليهم هذه الأعباء . والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء ، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء :
{ يا أيها الذين آمنوا } .
النداء لهم . للصبر والمصابرة ، والمرابطة والتقوى . .
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى . . يذكران مفردين ، ويذكران مجتمعين . . وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة ، ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة ، وإلى المرابطة والتقوى ، فيكون هذا أنسب ختام .
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق ، حافل بالعقبات والأشواك مفروش بالدماء والأشلاء وبالإيذاء والابتلاء . . الصبر على أشياء كثيرة : الصبر على شهوات النفس ورغائبها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم ، وانحراف طباعهم ، وأثرتهم ، وغرورهم ، والتوائهم ، واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل ، ووقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ، وغلبة الشهوة ، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلة الناصر ، وضعف المعين ، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ ، والحنق ، والضيق ، وضعف الثقة أحياناً في الخير ، وقلة الرجاء أحياناً في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة ، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر ، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام ، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله ، واستسلام لقدره ، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . . لا تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة . إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات!
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه . .
والمصابرة . . وهي مفاعلة من الصبر . . مصابرة هذه المشاعر كلها ، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . . مصابرتها ومصابرتهم ، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى : أعدائهم من كوامن الصدور ، وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم ، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر ، والدفع بالدفع ، والجهد بالجهد ، والإصرار بالإصرار . . ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق ، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصراراً وأعظم صبراً على المضي في الطريق!
والمرابطة . . الإقامة في مواقع الجهاد ، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . . وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبداً ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط ، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة ، والتعرض بها للناس .(2)
هداية وتدبر
1. الصبر على الطاعات، ومصابرة العدو والنفس والهوى، والمرابطة عند الثغور، وتقوى اللّه طريق الفوز والنصر في الدنيا على الأعداء، والنجاة من عذاب اللّه، والظفر بنعيم الآخرة.(3)
2. عظم فضل الرباط، روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «رباط يوم في سبيل اللّه خير من الدنيا وما فيها» وفي صحيح مسلم عن سلمان قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتّان» أي الشيطان.
3. الصبر المأمور به له مواطن ثلاثة: وهي صبر على الطاعات، وصبر دون المعاصي، وصبر على البلاء. فلا جزع ولا تسخط، ولكن رضاً وتسليماً.(4)
4. المصابرة: هي الصبر في وجه العدو الصابر، ومن هنا كانت المصابرة أشد من الصبر؛ لأنها صبر في وجه عدو صابر، فأيهما لم يثبت على صبره هلك، وأصبح النجاح لأطولهما صبراً. قال زفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام:
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها = ولكنهم كانوا على الموت أصبرا(4)
5. قال الحسن: اصبروا على دينكم ولا تدعوه لشدة ولا رخاء، ولا سراء ولا ضراء، وأمرهم أن يصابروا الكفار، وأن يرابطوا المشركين.
وقال آخرون: معنى { وَرَابِطُوا } : أي رابطوا على الصلوات، أي انتظروها واحدة بعد واحدة؛ لأن المرابطة لم تكن لازمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روي عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أدلكم على ما يكفر الله به الذنوب والخطايا: إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذالكم الرباط». وعن داود بن صالح قال: قال لي أبو سلمة: يا ابن أخي، تدري في أي شيء نزلت: { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ؟ قلت: لا، قال: سمعت أبا هريرة يقول: «لم يكن في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - غزو يرابط فيه، ولكن انتظار الصلاة بعد الصلاة» رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.(5)
6. كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر: أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من شدة يجعل الله بعدها فرجاً وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله يقول في كتابه {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}.(6)
7. عن سالم أبي النضر مولى عُمَر بن عُبيدِ اللَّهِ وكان كاتباً له ، قال : كتب إليه عبدُ الله بن أبِي أوفَى " أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض أيَّامِهِ الَّتي لقيَ فيها العَدُو ، انتظر حتَّى مالتِ الشَّمْسُ ، ثمَّ قام في النَّاس ، فقال : " يا أيُّهَا النَّاسُ لا تَتمنوا لقاء العدُوّ ، وأسْألُوا اللَّهَ العَافيةَ فإذا لقِيتُمُوهم فاصْبِرُوا ، واعلَمُوا أنَّ الجنَّة تحتَ ظلالِ السُّيُوفِ " ثم قال : " اللَّهُمَّ مُنزلَ الكتابِ ، ومُجْرِي السَّحابِ ، وهازِمَ الأحْزابِ ، اهزمْهُمْ ، وانْصُرْنا عليْهِمْ "(7)
8. فائدة الرباط أن يُعلم أنك لم تغفل عن عدوك وأنك لن تترك العدة والاستعداد له إلى أن يأتي بالمداهمة، ولكن تكون أنت مستعدّاً لها في كل وقت، والرباط لا يكون فقط أن ترابط بالخيل للعدو المهاجم هجوما ماديا، بل المرابطة تعني: الإعداد لكل ما يمكن أن يَرُدَّ عن الحق صيحة الباطل، فمن المرابطة أن تعد الناشئة الإسلامية لوافدات الإلحاد قبل أن تفد، لماذا؟.. لأن المسألة ليست كلها غزواً بخيل وسلاح وعُدَد، فقد يكون الغزو بالفكر الذي يتسرب إلى النفوس من حيث لا تشعر، فإذن لابد أن تكون أيضاً في الرباط الذي يمد المؤمن بقدرة وطاقة المواجهة بحيث إذا جاءت قضية من قضايا الإلحاد التي قد تفد على المؤمنين، يكون عند كل واحد منهم الحصانة ضدها والقدرة على مواجهتها.(8)
9. " اتق الله " تساوي أن يقول لك: " اتق النار " فمعنى " اتقو الله ": أي اجعلوا بينكم وبين غضب ربكم وقاية. ما هي الوقاية؟ أن تطيع، وما هي الطاعة؟ أن تنفذ ما أمر، وأن تنتهي عما نهى.(8)
10.إن الفلاح إما أن يكون في الدنيا وإما أن يكون في الآخرة في الدنيا: بأن ترتفع كلمة الحق وكلمة الإيمان وتنتصروا ولا أحد يذلكم ولا يجعلكم أحد تابعين له. هذا لون من الفلاح، ولكن على فرض أنهم فلحوا وضعفتم أنتم، في فترة من الزمن فثقوا أنكم تعملون لفلاح آخر هو فلاح الآخرة، وإلا فالذين يخاطبون بهذه الآية قبل أن يدركوا نصرا للإسلام على أعدائه، يفسرون الفلاح بماذا؟ الذين جاهدوا وتعبوا وعاشوا مضطهدين لا استقرار في حياتهم، وبعد ذلك ماتوا قبل أن يمكن للإسلام، كيف يكون فلاحهم؟ إن فلاحهم في الآخرة، ولذلك تجد الاحتياط في قصة أهل الكهف:{ وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـاذِهِ إِلَىا الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىا طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذاً أَبَداً }[الكهف: 19-20]. ونلحظ في هذه القصة قوله الحق: { يَرْجُمُوكُمْ } هذه واحدة، { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذاً أَبَداً }. إن كانوا يرجمونكم فسينتصرون عليكم في الدنيا، إنما ستأخذون الآخرة، وإن ردوكم إلى دينهم، فلن تفلحوا في الدنيا ولا في الآخرة، إذن فعناصر الفلاح المرادة للإنسان، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا إنّ عناصر الفلاح أن ننفذ أوامر الله في قوله: { اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.(8)
1) أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير. والتبيان في تفسير غريب القرآن. وتفسير الشعراوي.
2) في ظلال القرآن.
3) التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج.
4) أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير.
5) الأنوار الساطعات لآيات جامعات.
6) الدر المنثور - السيوطي.
7) اللباب في علوم الكتاب.
8) تفسير الشعراوي.