سبعون عاما في حضن اللغة العربية 37

سبعون عاما في حضن اللغة العربية

الحلقة السابعة والثلاثون

وفي صحف الغربة معارك حامية

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

وقد دار على صفحات الصحف والمجلات معارك حامية منها على سبيل التمثي لا الحصر :

1- معركة أدب الطفل مع محمد أمين وقد نشرت حلقاتها على صفحات جريدة اليوم التي تصدر في المنطقة الشرقية في السعودية . وكان موضعها : تعريف أدب الطفل .

2-  معركة الشعر والعروض مع نجيب القضيب و امتدت لعدة أسابيع على صفحات اليوم فالقضيب : يرى أن الأصل في الشاعرية هو المعرفة العروضية ، ( ونشر ما نشر في مجلة القافلة ) . وتوالت ردودي عليه في صحيفة اليوم . وأقدم مقتطفات مما نقضت بها رأيه : اليوم الثقافى (الأحد 2 جمادى الأولى 1414ه – 17 أكتوبر 1993 م

حول مقال فى "القافلة" عن

الشعر العربى وعروض الخليل (2)

بقلم الدكتور جابر قمية – جامعة الملك فهد – بالظهران

 عود على بدء:

 كتب الأستاذ نجيب القضيب فى عدد ربيع الآخر 1414 من مجلة "القافلة " مقالاً بعنوان " الشعر العربي وعروض الخليل" وقد عرضنا له بالنقد في مقال سابق بصحيفة اليوم سجلنا فيه ما في مقال القضيب من إيجابيات – وهي قليلة – بالنسبة لما رأينا فيه من مآخذ كثيرة بعضها يتعلق بالآداء التعبيري ، وبعضها الآخر يتعلق بالأحكام النقدية التي خلص إليها مقال الأستاذ القضيب.

 وها نحن أولاء نستكمل المسيرة في هذا المقال الثاني والأخير ، لنتبين ما في بقية أحكام القضيب من صحة و خطأ ، أو نضج وفجاجة مؤمنين أولاً وأخيراً بأن الخلاف لا يفسد للود قضية .

اختلال أوزان الشعر العمودي تحت هذا العنوان الجانبي ص 16 نطالع أهم أجزاء هذه الدراسة – لأنها دراسة ميدانية عملية – وفيها يعرض الكاتب لنوعين من الخلل الوزني:

الأول : يتمثل فى الزحافات غير المقبولة – من وجهة نظره – مثل (الوقص) .

والثاني : يتمثل في الكسور العروضية ، بالخروج الواضح على وزن البحر الواحد .

ونرجئ الحديث عن هذين النوعين مؤقتاً لنعرض لما كتبه من أحكام نقدية خطيرة تتعلق بهذا الإخلال ، و نبدأ بالحكمين التاليين:

1- يعلل الأستاذ القضيب ما يقع فيه الشاعر – أى شاعر – من خلل عروضي بتعليلين :

الأول: هو اكتفاء الشعراء في نظم قصائدهم بسليقتهم الشعرية فحسب، وهي – كما يقول " لا يمكن الركون إليها في إقامة الوزن " ، ويرى أن الحل يكمن فى " تعلم العروض وتعمقه واستيعابه " .

والثانى: - وهو عامل مساعد – يتمثل في " ضعف وسائل الإعلام ... وخصوصاً الجرائد والمجلات التي تنشر كثيراً من القصائد الغاصة بكثير من الأخطاء والخلل العروضي.

2- وفي أواخر ص 17 يرى أن السليقة الشعرية لا يمكن أن تتأصل وتتجذر إلا من خلال المعرفة العلمية لضوابط ومقاييس علم العروض ، وبدون ذلك يمكن أن يكون هناك سليقة سليمة".

بين السليقة والعروض !!

 ومن حقنا أن نرفض هاتين المقولتين رفضاً قاطعاً ، وتتلخص " حيثيات " الرفض فيما يأتي :

أ] لو كانت الشاعرية ترتبط – صورتها الناضجة الكاملة – باستيعاب العروض وتعمقه وتمثله لكان الخليل بن أحمد الفراهيدى (واضع علم العروض) هو أشعر الناس، وهو كما هو معروف مقل جداً فى شعره .

وما ينظمه هو أقرب إلى النظم التعليمي منه إلى الشعر، وجيده لا يمكن أن يرْقى – في مستواه - إلى شعر بشار أو أبي العتاهية أو المتنبي .

ب] ومفهوم " السليقة " لغة وفناً ينقض ما ذهب إليه المقال فقد أجمعت معاجم اللغة على النص على الآتي :

السليقة الطبيعة يقال فلان يتكلم بالسليقة أى بطبعه – لا عن تعلم – أى ينطق باللغة صحيحة سليمة ، دون أن يتلقى علمها .

والمسلاق والسلاق هو الخطيب البليغ ، قال الأعشى :

 فيهم الحزم والسماحة والنج      دة فيهم والخاطب السلاق

والسليقي : المنسوب إلى السليقة، وهوالعربي الذي ينطق بالكلام صحيحاً من غير تعلم . قال الشاعر :

 ولست بنحوي يلوك لسانه         ولكن سليقِيٌّ أقول فأغربُ

( أي أقول فأنطق صحيحاً دون أن أحصل على نحو النحاة وقواعدهم) .

ج] والعصر الجاهلي هو عصر فحولة الشعر ، وفحول الشعراء ، وكلهم نظم بطبعه وسليقته الفنية ، دون معرفة بالعروض ، ولم يقعوا إلا فى أخطاء طفيفة جداً كإقواء النابغة الذبيانى فى بيت من قصيدته "الدالية " ، وما نراه فى معلقة عبيد بن الأبرص ، وما أراه  أو أغلبه  إلا من أخطاء الرواة والنساخين .

 وقبل أبي الأسود الدؤلي ، كان العرب يتكلمون – فى حياتهم العادية وتعاملهم اليومى – بالعربية الفصحى سليمة نقية دون معرفة بالنحو وقواعد الإعراب ، حتى إن أعرابياً سمع بعض الباعة يلحنون فصرخ " يالله !! كيف يلحنون ويرزقهم الله ؟ !! " .

 يقول ابن طباطبا العلوي : فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه ، ومن اضطرب عليه الذوق لم يستغن عن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به " .

ويقول الدكتور عتيق : كذلك كانوا بذوقهم وسليقتهم يدركون ما يعتور الأوزان المختلفة من زحافات وعلل ، وأن لم يعطوها أسماء ومصطلحات خاصة كما فعل العروضون .

 ويقول كمال أبو ديب " تنامت الفاعلية الشعرية وازدهرت في غياب أي وعي لوجود نظام نظري لتشكيلات الإيقاع الشعري، لكن الحس المعجز بحركة الإيقاع وتغيراته كان دون شك خصيصة فطرية جذرية في الإنسان الشاعر.. " .

ويقول الدكتور صفاء خلوصي في كتابه ( فن التقطيع الشعرى) – وهو المرجع النقدي الوحيد الذي رجع إليه الأستاذ القضيب فى مقاله بالقافلة – " ولسنا نزعم أن من يدرس هذا الكتاب يصبح شاعراً ، لأن الشعر فطرة وجبلة وسليقة بالإضافة إلى التدريب والممارسة والمران ، بل نزعم أن من يدرس هذا الكتاب دراسة جدية قد يصبح ناظماً على الأقل إن أعوزته الملكة الأصيلة .

 فرأي الأستاذ القضيب في مسألة " السليقة " ينقصه واقعنا الشعري قديماً وحديثاً وينقصه إجماع النقاد والباحثين – قديماً وحديثاً أيضاً ، ومنهم الدكتور صفاء خلوصي مؤلف المرجع اليتيم الذي اكتفى الأستاذ نجيب بفقرة أو فقرتين منه.

فالخلاصة إذن – أن السليقة هي الأصل ، وبدونها لا يمكن أن يكون الإنسان شاعراً حتى لو استوعب بل تعمق ألف كتاب فى العروض .

وما يقع فيه بعض الشعراء من أخطاء وكسور عروضية في الوزن أو القافية ليس سببه "الجهل بالعروض" ولكن سببه "فجاجة السليقة" ، أي عدم نضجها أو ضعفها على نحو من الإنماء مع اختلاف فى القدر والدرجة ، ولا نصدر مثل هذا الحكم على الشاعر بالكسر فى البيت والبيتين والثلاثة – على مستوى ديوان كامل.

 ولكن إذا زاد تحدر الخلل واطرد فإن ذلك قد يقودنا إلى الحكم بنقض السليقة ذاتها.

 وهذا الحكم بأهمية السليقة وأصالتها يجب ألا ينسينا بدهية لا يمكن إنكارها وهي أن " السليقة الشعرية كأي موهبة تشحذها الدربة والقراءة والإطلاع الواسع على عيوب الشعر العربي والعالمي ، كما أدعو كل شاعر إلى استيعاب قواعد العروض العربي وأوزانه فأن ذلك يعتبر ضميمة ثقافية لها قيمتها.

وقد نبه النقاد القدامى إلى أهمية ما يجب أن يعتد به الشاعر المثالى من ثقافات وعلوم متعددة منها – كما يذكر ابن طباطبا العلوي : التوسع فى علم اللغة، والبراعة في فهم الأعراب والرواية لفنون الآداب والمعرفة بأيام الناس وأنسابهم، ومناقبهم ومثاليهم، والوقوف على مذاهب العرب في تأسيس الشعر والتصرف في معانيه في كل فن قالته العرب فيه.

 وما ذكرناه عن مكان "السليقة وأهيمتها يدخل في عداد البدهيات التي لا يرقى إليها الشك لأن أقوى أدلتها هو الواقع الأدبي المشهود قديماً وحديثاً – لا على مستوى الشعر العربى فحسب – بل على مستوى الشعر فى كل الأمم .

ولكننا في ختام مقال الأخ نجيب القضيب ( ص17) نراه يعود إلى الإلحاح على تصوره لمفهوم السليقة وأبعادها فيقول بالحرف الواحد : أنا أقول من خلال تجربتي وخبرتي ومعرفتي ومتابعتي أن السليقة يمكن الركون إليها، والاعتماد عليها في أحكام ضبط الوزن، والأخطاء والكسور العروضية يمكن تلافيها لو كان الشعراء يعرفون الوزن ، ولكن اعتمادهم على السليقة جرهم إلى ماهم في غني عنه.

 والأخ نجيب يقطع بهذا الحكم معتمداً هذه المرة – كما يقول – على هذه الرباعية:

أ] تجربته       ب] خبرته      ج] معرفته      د] متابعته

وهذا كلام يحتمل مناقشة طويلة جداً جداً أعفي نفسي منها حتى لا تتفرق وتتشعب بنا السبل وذلك لأن محصلة المقال أقل مستوى بكثير جداً من هذه الرباعية، أو واحدة منها.

 وما أرى الأخ نجيب إلا ظلم نفسه وإمكاناته بهذا الحكم.

ولا أملك إلا ان أحيل القارئ على ما ذكرته عن مكان السليقة في الشعر العربى ، وأقوال النقاد العرب قديماً وحديثاً في ذلك مما يقطع بان "متابعة" الأستاذ القضيب لم تكن من الإحاة بحيث تعطى الحكم السليم .

بقيت " التجربة " وطبعاً هو يعني "تجربته الخاصة" فهل يعني بذلك أنه لم يستطع أن ينظم الشعر في حالته الخالية من الكسور إلا بعد دراسته للعروض؟ إن صح هذا كانت السليقة هنا " متهمة " وكنا بصدد تجربة عجيبة ، لا تصلح أن تكون قاعدة لاصطدامها بالواقع الأدبي المطرد والرصيد النقدى قديماً وحديثاً.

وما دمنا في مقام الحديث عن " التجربة " فليعذرني القارئ وليعذرني الأستاذ القضيب، إذا قلت أن بين ييدى الآن ديوان شعر كامل مخطوط (من 2 قصيدة) نظمته سنة 1950 وأنا طالب فى المرحلة الثانوية.

ويحلو لي أن أطالعه بين الحين والحين وليس فيه خلل عروضي واحد، ولم أكن أيامها أعرف معنى البحر ، ولا معنى العروض، ومرة أخرى أعتذر للقارئ إذا اتخذت من نفسي شاهداً، وأعوذ بالله أن أكون مغروراً .

وأعرف شاعراً عربيً من أشهر العرب وأنضج الشعراء الأحياء وله دواوين متعددة، وله قدرة عجيبة على الارتجال تذكرنا بعبد المحسن الكاظمى – رحمه الله - ومع ذلك يجهل العروض جهلاً مطبقاً.

ثم تنتهي " أحكام " الأستاذ القضيب بنفي " السليقة الفنية السليمة " عن أي شاعر لم يدرس العروض، لأن هذه المعرفة العروضية في نظره هى الوسيلة الوحيدة لإرساء قواعد السليقة الفنية، يا عجباً !! أنه يقول بالحرف الواحد "فالسليقة تتأصل وتتجذر عند الأدباء من خلال المعرفة العلمية لضوابط ومقاييس علم العروض ، وبدون ذلك لا يمكن أن تكون هناك سليقة " !!.

وننهي كلامنا عن "السليقة " بهذا الحكم الغريب الذي لا يمكن ينتسب للنقد بأية حال ، يقول الأستاذ القضيب والسليقة لا يمكن تعميمها عند جميع الشعراء ولا يمكن نفي وجودها عند بعضهم الآخر .

ما معنى تعميم السليقة أو تأميمها ؟ وما المقصود بعدم إمكان نفي وجودها عند بعضهم الآخر ؟

 حقيقة يا أستاذ نجيب لم أفهم !! ولكنني أقول : إننا حينما نصف أديباً بانه (شاعر) فهذا يعني أنه يمتلك "الطبيعة الفنية" أي " السليقة الشعرية " في صورتها الناضجة ، أو شبه الناضجة ، وتأتي الثقافات والمعارف لتشحذ هذه السليقة ، وتوسع من الآفاق الفكرية والخيالية للشاعر ، ولكنها لا يمكن أن "تصنع شاعراً ، ولا تخلق سليقة " .

 وليس معنى هذا أن السليقة تتساوى في القدر والأبعاد والقدرة عند الشعراء جميعاً ، وإلا لما فضلنا شاعراً على شاعر، ولما قرن العرب بين الشاعر والناظم ، وبين الشاعر والمتشاعر والشعرور ، فلكل سليقة بصماتها وآمادها وطوابعها الخاصة.

عن الكسور والاختلال العروضي:

 وفي المقال ما يشهد للأستاذ القضيب بحاسة عروضية طيبة ، فقد استطاع ببراعة أن يسوق نماذج متعددة من أبيات مكسورة الوزن ، وبعضها لا تخلو قوافيه من آفة ، وذلك للشاعرين الأستاذين د. وليد قصاب ، وعبد الرحمن العبيد رئيس النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية . وما اكتشفه الأخ نجيب حق لا يحتمل النقاش .

 ولكن الأمانة العلمية تقتضي أن أقف أمام ما ذكره عني إذ كتب بالحرف الواحد (ص16 من مقاله) " وفي ديوان آخر صغير ( يقصد ديواني لجهاد الأفغان أغني )

وردت قصيدة " نشيد الدم " جاء في مستهلها :

 تقدموا تقدموا          فاليوم يومك يا دمُ

 نجد أن وزن الصدر جاء مختلفاً عن وزن العجز ، فالصدر على مجزوء الرجز، والعجز على مجزوء الكامل .

 وجاء هذا الاختلاف نتيجة دخول الوقص (حذف الثاني المتحرك) على بحر الكامل "متفاعلن" ، فتحولت إلى "مفاعلن" ، والوقص من الزحافات القبيحة التي تدخل على الكامل، مثله في ذلك مثل الخزل.

والبيت هومطلع نشيد ، نظمته سنة 1986م مع نشيدين آخرين بعنوان " نشيد الزحف الأفغاني " ، ونشيد "ريح الجنة" ، وذلك لطلابى فى جامعة إسلام آباد العالمية بباكستان ، ولحنت هذه الأناشيد ، وأنشدها الطلاب في حفلات أقمناها في الجامعة باسلام آباد ، وكثير منهم خاضوا المعارك مجاهدين واستشهد بعضهم . ومطلع النشيد الأول :

 تقدموا        تقدموا          فاليوم يومك يا دم

 ولن يكون    مسلما          من ينحني أو يحجم

 يا من غصبتم أرضنا          بأرضنا لن تنعموا

 هي   قبركم    وإنها          عليكمو جهنم

 والوقص (مفاعلن) بدل (متفاعلن) دخل على تفعيلتي صدر البيت الأول وصدر البيت الثاني، وحشو البيت الثالث، وعروض البيت الرابع، وحشو وضرب البيت الرابع.

 مع ذلك تظل القصيدة كلها من مجزوء الكامل ما دام قد استخدمت فيها (متفاعلن) ولو مرة واحدة في القصيدة كلها .

 وقد انقسم علماء العروض بشأن الوقص : فمنهم من يرى أنه قبيح، ومنهم كالأستاذ محمود مصطفى – أنه صالح مقبول، وأن كان هناك إجماع على قبح الخزل ( وهو إسكان الثاني المتحرك وحذف الرابع من متفاعلن) . فقول الأخ نجيب بأن الوقص " من الزحافات الشاذة ، وأنه أهمل حتى اندثر" ، واستشهاده بقول صفاء خلوصي بانه "لا ضرورة لوجود الوقص – فهو زحاف أشبه بالزواحف المنقرضة ، وقد تحاشاه الشعراء منذ ألف عام أو يزيد " .

أقول كلام الأستاذين فيه نظر، ولا يتسع المقام لإيراد نماذج من الشعر القديم أو الوسيط ، ولكن اكتفي بمثالين من شعر الحديث:

الأول لعبد الله النديم مخاطباً محمود سامي البارودي :

 يا فارس  الشعر  الهمام  تحية          من شاعر قد هام في الآفاق

 لئن سرنديب ازدهت بوجودكم          فالنيل يطمع أن يشد وثاقي

والوقص واضح فى التفعيلة الأولى من صدر البيت الثاني.

أما المثال الثاني فلشاعر ما زال في الأحياء وهو الشاعر سعيد أبو زيد . يقول من قصيدة طويلة (على مجزوء الكامل أيضاً ):

 وشوقه      بشكله    متلبس          يشتاق أو يرتاب لا تدريهما

 يهوى الحياة بحلوها وبمرها          ومرها   في  ذوقه  أحلاهما

 والوقص واضح في حشو صدر البيت الأول ( أي في التفعيلتين الأولى والثانية )

وقد يكون استخدام الوقص قليلاً ولكن هذا الاستخدام – على قلته – ينقض المقولتين السابقتين باندثار الوقص.

 وفي النهاية أقول : شكر الله للأخ الأستاذ نجيب القضيب فقد كان لمقاله – على مابه – الفضل الأكبر في تحميس قلمي إلى كتابة هذه التعليقات التي أدعو الله ألا تكون قد جانبت الصواب ، والكمال لله وحده .

 **********

3- ومن أشد هذه المعارك معركتي مع الأستاذ رجاء النقاش عما سماه " قصيدة البيت الواحد " ، معركتي مع رجاء النقاش استغرقت فيما بعد أكثر من ثلث كتاب «الأدب الحديث بين عدالة الموضوعية وجناية التطرف» ، أي أنها استغرقت أكثر من مئة وخمسين صفحة. وهذه المعركة كانت بسبب أن رجاء النقاش تحمس تحمساً بالغاً لناقدٍ اسمه «التليسي» ، دعا إلى ما سماه قصيدة البيت الواحد. وأنا نظرت إلى هذه الوجهة على أساس أنها تمثل خطراً على الشعر العربي، والشاعرية العربية، لأن الشعر العربي فيه القصائد الطويلة التي لا يغني عنها غيرها، وفيه الأبيات المركزة المكثفة التي نقول عنها إنها حكمة، أو مثل.

ونشرت هذه المقالات على عدة أشهر في صحيفة «اليوم» التي تصدر عن النادي الأدبي في الدمام. وأذكر أنني التقيتُ بعدها في مهرجان الجنادرية في الرياض برجاء النقاش فرأيته واسع الصدر، وشد على يدي وهو يبتسم، وقال يا فلان لو كان لقائي بك وإرضائي لك يحملك على أن تشن حملات عليّ لرحبت بذلك تمام الترحيب، وأخذنا المسألة على أساس أنها سهلة، وكان واسع الصدر إلى أقصى حد، ومن يومها وصداقتنا لا تنفك .

ومما جاء في ردي على رجاء النقاش الكلمات الآتية :

 من قراءتي لكتاب الأستاذ التليسي خرجت بانطباع قوي وهو أن فكرة "قصيدة البيت الواحد " هذه ليست واضحة في ذهنه ... بل أكاد أ أقول إنه شخصيا غير مقتنع بها ، وأنه " اعتنق " هذه الفكرة قبل أن يملك رصيدا يشهد لها أو حيثيات تؤيدها وتؤكدها وتبررها ، فراح يلتمس لها الأدلة من كل مكان ويعتسفها اعتسافا ... ولكن حكمنا هذا يعد سابقا لأوانه الآن ...

 فلنحاول أن نتخيل مخرجا له من مأزق هذا المفهوم أو هذه المفاهيم بأن نتخيل أنه يقصد بقصيدته البيت الواحد . ما يسمى " بيت القصيد " ، أي البيت الأكثر توهجا ولمعانا في قصيدة الشاعر . ولكنه سرعان ما ينفي هذا الخاطر أو هذا الوهم . ويرى أن " بيت القصيد " هو بيت الحكمة والمثل السائر  وهي وإن كانت مهمة  تعد " ضعيفة الصلة بروح الشعر . كيف تكون الحكمة بهذا الضعف ؟ لست أدري .

 ومن هذا اللون أبيات كثيرة للمتنبي منها قوله :

 من يهنْ يسهل الهوان عليه          ما لجرح بميتٍ إيلامُ

 فمثل هذا البيت يعتبر من قبيل " بيت القصيد " ولكنه لا يمثل " قصيدة البيت الواحد " وهي تلك التي يقدمها إلينا المتنبي وأمثاله " في أرفع صورها وأعمق جوهرها الشعري ... لأنها تعبر عن اللحظة الشعرية أجمل وأعمق تعبير أو تصورها أروع وأجل تصوير " .

 وهذا الكلام يعني أن البيت السابق وهو :

 من يهنْ يسهل الهوان عليه         ما لجرح بميت إيلام

 محروم من كل الصفات السابقة أي صفات " قصيدة البيت الواحد " .

 ومع إيماننا بأن هذا التفريق لا يقوم على أساس نجد الكاتب يتنكر لهذا التنظير في التطبيق العملي فيسجل البيت نفسه ضمن " المفردات " التي اختارها كنماذج راقية لقصيدة البيت الواحد ويجعل عنوانه " هوان " وذلك في ص 126 .

قلت : ربما كانت " فلتة " مطبعة ، ولكني أفاجأ بتكرار نفس البيت بنفس العنوان ص 137 من الكتاب فهل نصدق التليسي الأول أم التليسي الثاني والثالث ؟

 *********

 والمعارك الثلاث التي ذكرناها ( معركة أدب الطفل  ومعركة الشعر وعروض الخليل  ومعركة قصيدة البيت الواحد ) إنما هي مجرد نماذج لما عرض في صحف الغربة ، والمجال يتسع لغيرها ،ولكننا نكتفي بهذا القليل عن الكثير .