خطيئة الاحتفال بالحرب العالمية الأولى

م. محمد سيف الدولة

م. محمد سيف الدولة

[email protected]

لا أعلم من هو صاحب فكرة أن "تحتفل" مصر بالذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى، وهي الحرب التي كانت وبالاً علينا جميعاً؛ ففيها تم تقسـيمنا بموجب إتفاقيات (سـايكـس ـــــ بيكو)، وتم توزيعنا كغنائم حرب على المنتصرين من الأوروبيين، وخرجت منها الأقطار العربيـة كافـة وهي ترزح تحت الانتداب/الاحتلال البريطاني أو الفرنسـي أو الإيطالي الذي اسـتمر إلى ما بعد الحرب العالميـة الثانيـة، والذي كان سـبباً رئيسـياً في تخلفنا ونهب ثرواتنا...!!!

وفيها بدأ تدشـين المشـروع الصهيوني بإعطاء اليهود "الحق" في وطنٍ قومي في فلسـطين بموجب صك الانتداب البريطاني 1922 ومن قبله وعد (بلفور) المشـؤم 1917.

وفيها قام الأوروبيون باحتلال القدس لأول مرة منذ أن حررها صلاح الدين الأيوبي في 1187، ودخلها الجنرال الإنكليزي (اللنبي) بجيوشه في 09/12/1917 وقال قولته الشهيرة "اليوم انتهت الحروب الصليبية". وهو ذات المعنى الذي كرره بعده الجنرال الفرنسي (هنري غورور) حين احتلت قواته دمشق في 25 يوليو 1920، فذهب إلى قبر صلاح الدين الأيوبي وقال بشماتة "ها قد عدنا يا صلاح الدين".

إن استكمال احتلال البلاد العربية في الحرب العالمية الأولى، وخاصة بلدان المشرق العربي التي لم تكن قد خضعت بعد للاحتلال الأوروبي، هو في التاريخ والوعى والضمير الأوروبي الاستعماري العنصري، هو مجرد امتداد للحملات الاستعمارية التي شُنَّت على أوطاننا منذ تسعة قرون، والتي لم ينسوا أو يغفروا لنا أبداً انتصارانا عليهم فيها وطردنا لآخر جندي منهم في عام 1291.

فنأتي نحن اليوم و"نحتفل" بها!؟

أي رسالة تلك التي نُريد أن نبعث بها إلى شبابنا وأولادنا بمشاركتنا في هذا "الاحتفال"!؟

أنريد أن نُخبرهم أننا "نفتخر" بهذه الحُقبة التي كنا فيها محتلين وتابعين وضعفاء ومساقين وشعوباً من الدرجة الثالثة والرابعة!؟

هل نريد أن نروّج لعصور الاحتلال والتبعية!؟

أم أننا نريد أن نتقرب من الغرب ومجتمعه الدولي، في محاولة لنيل الرضا والاعتراف، على غرار مشاركتنا الحالية في التحالف الأمريكي الاستعماري في العراق وسوريا!؟

إن الشعوب والأمم "العريقة"، لا تنسى أبداً ثأرها، ممن اعتدى عليها واستعمرها واستعبدها.

حتى الصهاينـة المجرمون لا يزالون يُهاجمون مصر والمصريين بدعوى إخراجهم لليهود من مصر منذ  ما يزيد عن 3000 عام. ولا يزالون يبتزون العالم بالـ (هولوكسـت)، وبالاضطهاد الأوروبي لهم في العصور الوسـطى، وبعنصريـة (شـكسـبير) في مسـرحيـة "تاجر البندقيـة"، ولا يزالون يُتاجرون بمحاكمـة الضابط الفرنسـي اليهودي "دريفوس" للتدليل على عنصريـة أوروبا ومعاداتها للسـاميـة.

فلماذا نسينا نحن جرائم الحقبة الاستعمارية الأوروبية التي قد تمتد آثارها المدمرة علينا لقرون طويلة!؟

هل يمكن أن ننسـى لهم مذابح الإسـكندريـة والتل الكبير ودنشـواي وثورة 1919 وكوبري عباس والإسـماعيليـة وحريق القاهرة والعدوان الثلاثي وغيرها..!؟

ثم نتذكر لهم بدلاً من ذلك انتصاراتهم على بعضهم البعض، باسـتغلالنا واسـتخدامنا أوطاناً وبشـراً وموارداً كوقود لحروبهم الاسـتعمارية الإجراميـة..!!

***

لقد قامت الحرب العالميـة الأولى بسـبب تنافـس وصراع الدول والإمبراطوريات الأوروبيـة على اسـتعمار باقي شـعوب العالم. صراعاً بين القوى الاسـتعماريـة المهيمنـة كبريطانيا وفرنسـا وروسـيا من جانب، وبين ألمانيا والإمبراطوريـة النمسـاويـة المجريـة والدولـة العثمانيـة رجل أوروبا المريض.

وللفيلسوف البريطاني الشهير "برتراند راسل" مقولة شهيرة بالغة الدلالة في عُنصريتها، حين سألوه عن سبب رفضه للحرب العالمية الأولى واعتقاله لذلك؟ فأجاب أنـه كان من الممكن تجنب الحرب لو قامت بريطانيا وفرنسـا بإعطاء ألمانيا بعضاً من مسـتعمراتهما!

هكذا يفكرون، لقد كانت حرب بين لصوص العالم. حرب المنتصر والمهزوم فيها أشرار. والضحية في جميع الأحوال هي شعوبنا.

***

لقد قال اللواء أركان حرب جمال شحاتة رئيس هيئة البحوث العسكرية في الكلمة التي ألقاها في "الاحتفال"، إن الجيش المصري قدشارك مع الحلفاء في 5 أغسطس 1914، لنُصرة الإنسانية، بأكثر من مليون و200 ألف مقاتل، وقاتل في 3 قارات "آسيا وإفريقيا وأوروبا"، وكان ترتيبه الثامن من حيث عدد القوات المشاركة. وأنه قدّم أكثر من نصف مليون شهيد في الحرب العالمية الأولى، ودُفن من سقطوا من هؤلاء الشهداء في بلاد مختلفة بمقابر الـ (كومنولث).

فهل يجوز "الافتخار" بمثل هذه المشاركة التي قدمنا فيها نصف مليون شهيد من جملة عدد القتلى الذي بلغ 8.5 مليون في هذه الحرب الاستعمارية الإجرامية، بدون أن نُحقق أي مقابل أو مكسب أو مصلحة..!؟

فازت بريطانيا التي لم يتعدَ عدد قتلاها هي ودول الـ (كومنولث) مجتمعـة، 900 ألف قتيل، باحتلال غالبيـة بلدان أفريقيا وآسـيا بالمشـاركة مع حلفائها، بينما خرجنا نحن فاقدي الاسـتقلال، مجزئين مسـتَعبدين، بل ومحرومين من المشـاركـة في كل مؤتمرات ومقررات ما بعد الحرب، التي رفضت مطالبنا بالاسـتقلال. إنها أياماً سـوداء في تاريخنا..!! ورغم كل هذه التضحيات المصريـة المجانيـة، لم يُنسـب لمصر أي دور أو فضل في أي من المراجع التاريخيـة الرئيسـيـة التي تناولت الحرب..!! كما أن الجنود المصريين، شـاركوا فيها بالإكراه والكرباج والسُـخرة لصالح مصالح بريطانيا الاسـتعماريـة وليـس لصالح مصالح مصريـة أو عربيـة.

وحتى لو كان "الاحتفال" مجرد مناسبة (بروتوكولية)، فإن المشاركة غير مقبولة أيضاً، فلا أحد "يحتفل" بهزائمه أو بعصور استعباده؛ فهل "نحتفل" بالاحتلال البريطاني 1882 أو بالانتداب 1922؟ أو بذكرى النكسة في 5 يوينو 1967، أو بذكرى النكبة في 1948؟

وهل يمكن أن "يحتفل" الزنوج بذكرى اصطيادهم وترحيلهم واستعبادهم في الولايات المتحدة الأمريكية؟ أو الهنود الحُمر بذكرى إبادة المستوطنين الأوروبيين البيض لهم ولقبائلهم ولحضارتهم؟

***

إن المشـاركـة تعكـس خللاً واضطراباً في البوصلـة الوطنيـة. ولقد سبق أن حسمت القوى الوطنية موقفها من مثل هذه "الاحتفالات" والمناسبات التاريخية، حين رفضت وتصدت "للاحتفالية" التي نظمها فاروق حسني وزير ثقافة مبارك بمرور مائتي عام على حملة نابليون بونابرت..!!

ورغم ذلك نأتي اليوم ونكررها مرة أخرى، إنها بلد العجائب..!!!