أم المؤمنين عائشة في وجه المحن
أم المؤمنين عائشة في وجه المحن
د. نعيم محمد عبد الغني
أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قدر لها أن تكون في وجه المحن في حياتها وبعد مماتها، فأما في حياتها فإن أخطر فتنتين ومحنتين واجهتهما حادثة الإفك، ثم ما حدث في موقعة الجمل التي فرقت المسلمين وكانت بذرة شجرة الخلاف الخبيثة التي طرحت من بعد أشواك وغصصا في حلق الأمة الإسلامية، لتفترق فرقا وجماعات، وأحزابا وشيعا. وحديثا كانت أم المؤمنين هدفا للطعن فيها وفي شرفها وعلمها تمهيدا للطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته وشرفه، وهذه المحن تنبئ عن شخصية عظيمة بكل المقاييس، فالعظيم يكون له أعداء؛ لأنه لا يكون في الحياة رقما من الأرقام، بل تراه رقما صعبا في معادلة الحياة، ولقد قيل لبرنارد شو: إن فلانا ليس له أعداء، فقال: متى يكون عظيما إذن؟
إن التهمة في شرف الإنسان أشد أنواع التهم مرارة على النفس، ومهما سكب عليها من ماء النسيان فإن مراراتها تظل غصصا في الحلق، وقتادا يقض مضجع المتهم حتى مع ثبوت براءته، واتضاح نزاهته؛ إذ يظل على ذكر لقصة مريرة يظل أبطالها شاخصين في ذاكرته فيذكر إساءة من أساء وإحسان من أحسن. وهذا باختصار ما حدث مع السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها التي تعرضت لساعة عسرة شديدة البأس قوية التأثير. إذ اتهمت في عرضها؛ من المنافقين بقيادة عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان يعد نفسه ليكون ملكا في المدينة، وما زال ينتهز الفرص حتى يحطم بيت النبوة وينقض عرى الإسلام بعد ذلك عروة إثر أخرى؛ ليقيم مجده على هذه الأنقاض.
بدأت القصة فصولها عندما رجع النبي –صلى الله عليه وسلم- من غزوة بني المصطلق سنة ست من الهجرة كما تقول كتب السير، وتخلفت السيدة عائشة عن الركب، وأدركها سيدنا صفوان بن المعطل الذي قال لها: ما خلفك يرحمك الله، فلم تجبه، ثم أناخ لها البعير وأدار ظهره ولم ينظر إليها، فلما أدركت ركب الرسول ورآها المنافقون تناولتها الألسن، وغمزتها الأعين، وانتشر الكلام في المدينة انتشار النار في الهشيم حتى بلغ مسامع الناس أجمعين إلا عائشة رضي الله التي كانت آخر من يعلم، لكنها الذكية الفطنة مرضت شهرا ورأت تغيرا في معاملة رسول الله لها من عدم تودد لأحب نسائه، إلى أن علمت بما ذاع وشاع في المدينة من أمرها فأخذت تبكي قرابة ثلاثة أيام، حتى كاد البكاء أن يصدع كبدها فأرادت أمها التخفيف عنها فمثلها يحسد على الجمال والوضاءة والقرب من الزوج الذي يحبها.
مكثت أم المؤمنين في بكائها حتى دخل النبي صلى الله عليه وسلم وما دخل عليها بعد أن قيل فيها ما قيل ثم قال: "أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه , فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله تعالى عليه".
أمام هذا القول من زوج حبيب لم يصدق ولم يكذب ترى الزوج نفسها في حالة نفسية قل أن توصف، وتطلب من أبيها وأمها إجابة رسول الله فلا يجيبان، فتقول: (إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به , واستقر في نفوسكم , وصدقتم به . فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة , لتصدقنني . فوالله مما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال: "فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون".
لقد بلغ السيل الزبى فلعمري إنها ثورة شك بلغت مداها لكن ساعة اليسر أتت من السماء في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وما أجمل قول صاحب الظلال عندما قال: (هذا الحادث . حادث الإفك . قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق ; وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل; وعلق قلب رسول الله وقلب زوجة عائشة التي يحبها, وقلب أبي بكر الصديق وزوجه, وقلب صفوان بن المعطل . . شهرا كاملا . علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق).
أما المحنة الثانية التي نتكلم عنها فهي في موقعة الجمل التي اقتتل فيها الصحابة بسبب دم عثمان، وكثرت فيها الأقاويل، وافتري على الصحابة كلام كثير غصت به أغلب كتب التاريخ، وكانت السيدة عائشة من الذين افتري عليهم؛ حيث قالوا إنها كانت ضد سيدنا علي ولم تكن كذلك، بل كانت ذاهبة لإصلاح ذات البين بين طائفتين من المسلمين، ونقل على لسانها كلام لم تقله، وظل هذا الكلام تتلقفه الألسن لتعظم الفتنة ويشتد الكرب، أورد ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم عن مسروق بن الأجدع الهمداني "وهو من الأئمة الأعلام المقتدى بهم" أنه عاتب أم المؤمنين عائشة بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان، فأقسمت له بالله الذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون أنها ما كتبت إليهم سوادًا في بياض.
وهذا موقفها الذي أقسمت عليه، والذي يؤكد تأكيدا قاطعا أنها أرادت الصلح بين المسلمين في هذه الموقعة، ومن الطرائف في هذه المناسبة ما أورده ابن خلكان في وفياته أنه وقعت بين حيين من قريش منازعة فخرجت عائشة [على بغلة] تصلح بينها، فلقيها ابن أبي عتيق فقال: إلى أين جعلت فداك فقالت: أصلح بين هذين الحيين، فقال: والله ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل بعد فكيف إذا قيل يوم البغل فضحكت وانصرفت.
وخلاصة القول في هذه الحكاية أن نستعصم بالله فلا نسب الصحابة ولا نخوض في الكلام عن هذا اليوم، ولنأخذ بنصيحة الإمام البخاري التي أوردها ابن العربي في العواصم والقواصم حيث يقول: (خذوا لأنفسكم بالأرجع في طلب السلامة، والخلاص بين الصحابة والتابعين، فلا تكونوا ولم تشاهدوهم- وقد عصمكم الله من فتنتهم- ممن دخل بلسانه في دمائهم، فيلغ فيها ولوغ الكلب بقية الدم على الأرض بعد رفع الفريسة بلحمها).
وأما المحنة الثالثة فتعرضها قبل أيام قليلة لسب على يد بعض السفهاء، وما نقص ذلك من قدر أم المؤمنين، بل زاد في سيئات من سبها، وعظم أمره؛ ليدخل في دائرة حكم الفقهاء عليه بالكفر، كما قال الإمام مالك: (مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ جُلِدَ وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قُتِلَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِيهَا { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَمَنْ رَمَاهَا فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ وَمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ قُتِلَ)
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ فِي سَبِّ الصَّحَابَةِ إنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ كُفِّرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِلًّا فُسِّقَ وَلَمْ يُكَفَّرْ