حوار من وحي بنزرت

معن بشور

كان المشهد مهيباً في اللاذقية، حيث اجتمع في معسكر الطلائع المئات من المتضامنين في قافلة شريان الحياة – 5 – المتوجهة إلى غزّة لمساندة أهلها الصامدين في حصار يمتد من عام إلى عام فيما المهيمنون على المنطقة والعالم صامتون أمام جرائم لم يتورع الصهاينة أنفسهم عن وصفها "بالمحرقة" متناسين أن أجدادهم كانوا ضحاياها يوم كانت "المحرقة" مصطلحاً أحتكره النازيون طويلاً.

المتضامنون كانوا نساءً ورجالاً، شيوخاً وشباباً، عرباً وتركاً وأوروبيين وكان الجامع بينهم الانتصار للإنسان، والدعوة للحرية، والالتزام بالعدل.

ومن بين الحشد الذي التقى للترحيب بنا كزوار "متضامنين" مع "متضامنين" طال انتظارهم للرحيل إلى غزّة، وامتد إلى أكثر من ثلاثة أسابيع، خرج صوت تونسي شجي يذكرنا بأن بلاده قد شهدت في مثل هذه الأيام، قبل عقود، معركة بنزرت الشهيرة التي روى مئات الشهداء ربوعها الجميلة، وثغرها البهي، بدمائهم الزكية، وبدأ ينشد (ومعه كوكبة من أحرار تونس بينهم أطباء، نقابيون وإعلاميون وناشطون حقوق إنسان، وفنانون، يتقدمهم الصديق القابض على جمر عروبته عضو أمانة المؤتمر القومي العربي أحمد الكحلاوي)، نشيد "بني وطني" الذي كتبه شاعر تونسي أصيل عبد المجيد بن جدو (رحمه الله) وأنشدتها فنانة تونس الأولى - في زمانها – السيدة علية (رحمها الله أيضاً).

فجأة ازدحمت أفكار وخواطر في وجداني وأنا استمع إلى نشيد عابق بحب الوطن وبنداء الجلاء، وهو نداء ما زلنا نطلقه حيث هناك احتلال وعدوان، وارتسمت أمامي صورة محتشدة بالدلالات: متضامنون متوجهون إلى غزّة الفلسطينية، يغنون لبنزرت التونسية، على أرض اللاذقية السورية، في تعبير عن وحدة الثغور العربية العصيّة على الأجنبي من مغربها إلى مشرقها، كتجسيد لوحدة الأمة العربية على الاحتلال والعدوان والحصار.

لم تكتف فرقة الكرامة التونسية وقائدها سمير بالغناء لتونس فقط بل غنت لحيفا ويافا، للقدس والخليل، لبيسان ونابلس، وكل فلسطين.

نظرت حينها إلى صديقي العضو الآخر في أمانة المؤتمر القومي العربي الدكتور هاني سليمان، أحد أبطال أسطول الحرية (2010)، وقائد سفينة الأخوّة اللبنانية لكسر الحصار (2009)، والذي حمل إصابة بليغة في قدمه على يد الصهاينة في فجر 31 أيار 2010 (خلال الهجوم على أسطول الحرية)، متكئاً على عكاز يبدو أنه سيرافقه طويلاً، ليذهب من بيروت إلى اللاذقية مودعاً رفاقاً له سيشاهدون غزّة ويصافحون أبناءها، وهو الذي حُرم مرتين من تحقيق حلمه، وقلت له: "هل رأيت كم هو رائع هذا التواصل بين محطات مشرقة في تاريخ الأمة، بل بين ثغور أبية من جغرافيتها.

واستطردت معلقاً بنبرة يغلب عليها الحنين إلى أيام الزمن الجميل: "أليست هذه هي وحدة النضال العربي، وقد بدأ يأخذ بعداً عالمياً أيضاً. ألن يتعلّم المتربصون في أمتنا أنهم إذا نجحوا في احتلال الأرض هنا، واحتلال الإرادة هناك، فهم عاجزون حتماً عن احتلال ذاكرة أمة تتجدد مع كل مواجهة، بل تغذي كل المواجهات، كما تغذي المياه تربة عطشى تواقة للخصوبة".

لكن صديقي ذكّرني أيضاً بمشهد ملأ أياماً ثلاثة سابقة في بيروت حين اجتمع مئة شابة وشاب من 15 قطراً عربياً في ندوة فكرية في إطار "منتدى التواصل الشبابي العربي"، وحيث بلغت المناقشات بينهم حول واقعنا العربي الراهن قمماً في الرقي والنضج والموضوعية والمسؤولية، بما يؤكد أن ما يجمعنا كأبناء أمة واحدة ليس فقط الذاكرة المحرضة على الكفاح، المستثيرة للهمم، بل أيضاً الرؤية المستقبلية الواثقة التي تعزز ثقة الأمة بنفسها حين ترى شباباً منها تجشموا أعباء السفر وتكاليفه لكي يتداولوا ويتحاوروا ويتواصلوا.

فقلت لصديقي: "إنه التواصل بأصدق تعابيره يتحقق اليوم في اللاذقية نحو غزّة، كما بالأمس في بيروت نحو نهضة الأمة ووحدتها، تواصل بين أقطار وأجيال وأفكار، كما بين مناضلين وناشطين ومتحاورين، بل بين ماضٍ نعتزّ بلحظاته المضيئة، وحاضر نقاوم أثقاله الأليمة، ومستقبل نطمح إلى بنائه بالوعي والعلم والصبر والكفاح.

والتواصل هنا ليس مجرد آلية أو طريقة في بناء العلاقات، بل هو أيضاً ثقافة ونهج وأسلوب حياة، بل أنه، وأكثر من هذا كله، مفتاحنا إلى ما وصفناه دائماً "بثلاثية النهوض" في الأمم وهي ثلاثية: "التفاعل والتكامل والتراكم"، فعبثاً نتقدم دون تفاعل حر أصيل بيننا، وعبثاً نبني دون تكامل يحشد الطاقات على تنوعها في مجتمعنا، وعبثاً نرتقي دون تراكم نصعد في مدارجه سلالم النهضة درجة درجة.

والتونسيون الذين أنشدوا لوطنهم في ذكرى معركة بنزرت الخالدة وهم متوجهون إلى غزة المحاصرة لم يكونوا رسل بلادهم إلى فلسطين والأمة والعالم فقط، بل كانوا قبلها رسل فلسطين والأمة والإنسانية داخل بلادهم نفسها، وقد أعادوا إلى ذاكرتنا ونحن في اللاذقية حكاية ذلك البحار السوري الشهيد والشهير جول جمّال الذي أمتطى زورقه الطوربيدي يوماً ليفجّره في بارجة حربية فرنسية كانت تقصف بورسعيد أبّان العدوان الثلاثي إلى مصر عام 1956.

إنه تواصل الثغور في الأمة، تواصل بنزرت، اللاذقية، بور سعيد، بيروت، غزّة، وغيرها بل تواصل حبّات التراب في أرضنا، ومعها أشجار الزيتون والليمون، ونبضات القلوب، وومضات العقول، وصرخات الحق والعدل  في وجه كل ظالم أو طاغٍ.