"جميلة" والإيمان

"جميلة" والإيمان

ناديا مظفر سلطان

"الجمال والإيمان "، كان عنوانا لمحاضرة ألقيتها في أوائل الشهر الماضي أغسطس في الجامع الأموي ب حلب وقد علق أحدهم على مضمونها بدهشة لا تخلو من استهجان

كيف لنا العودة إلى نقطة الصفر ومناقشة جدلية وجود الله مع قوم مؤمنين ،صيام قيام ؟؟؟؟

والحقيقة أن قصة الجدل بين الإيمان والإلحاد ذات تاريخ طويل بين العلماء فمنهم كافر ومنهم مؤمن ولكن "الجمال" كحقيقة  كان هو الفيصل بين النظريتين.

وكتاب "تاريخ الصراع بين الدين والعلم" صدر منذ عام 1875 لمؤلفه جون و دريبر وهو يلخص النظرة القديمة في القرن التاسع عشر التي تهاجم الدين باسم العلم

وبالرغم من الخطأ الفادح في هذه التسمية-(من المنظور الإسلامي ) بل إن العكس هو الصحيح " إنما يخشى الله من عباده العلماء" فاطر28

إلا أن هذه النظرية قد بزغت من جديد في مقابلة( لاري كينغ ) لايف مع الفيزيائي (ستيفن هوكينغ) في العاشر من الشهر الحالي(سبتمبر)

وهوكينغ عالم الفيزياء بجامعة كمبريدج  قد أصدر كتابه الجديد (التصميم الكبير) وهو يناقش فيه فكرة أن (الله لم يخلق الكون)

وأن الصدفة هي السبب في حقيقة "اللا عدم" أو الوجود وأنه ليس هناك ضرورة لوجود إله لجعل آلة الكون تستمر في الدوران بل إن الكون آلة تدير نفسها بنفسها

والحقيقة أن مجموعة لابأس بها من العلماء تؤيد أفكار هوكينغ في إنكار وجود الله وأن الكون محكوم بالصدفة والضرورة، كما أن هنالك فئة أخرى  تعمل لإثبات وجود الله وحجتها في ذلك عنصر (الجمال) المتوفر في الكون من جماد ونبات وحيوان وإنسان

ومن أبرز من تصدى لهؤلاء العلماء العالم د.أ.بتلي الذي أمضى خمسين عاما لإنشاء كتاب البللورات الثلجية وهو كتاب يحتوي على ألفي شكل لندف الثلج ويعتبر المصدر الأول لمصممي المجوهرات والمنسوجات والفنانين  وما أطلق عليه العالم همفريز معرض الطبيعة الدائم

وعالم الأحياء أدولف بورتمان الذي أثبت أن عملية التمثيل الضوئي الضرورية للنبات لا تفسر الاختلاف والتنوع في شكل أوراق الأشجار

وبورتمان قد أثبت كذلك أن ريش الطائر ضروري للطيران ولتعديل الحرارة ولكن زخرفة الريش وجماله واختلافه من طائر لآخر ينتميان إلى ذات الفصيلة لا علاقة له  بمبدأ الضرورة

وحتى العالم داروين نفسه قد أقر أن الضرورة لا تفسر الجمال في صوت الإنسان إذ كان يكفي أن يكون له صوت رتيب مثل الروبوت للتعبير عن حاجاته

وكما أنه في داخل الخلية الحية تكشف الأشعة السينية عن تركيب الا د ن إي وهو قالب الحياة ويصفه العالم جيمس واتسن أنه جميل

وهكذا يقول العالم ديفيد بوم (كل ما يمكن العثور عليه في الطبيعة يتبدى عن الجمال سواء في التدارك الفوري له أو في التحليل الفكري)

وهكذا فقد كانت الطيور الصداحة والأزهار الفواحة وكل صور الجمال هي حجة  أهل الإيمان تجاه أهل الإلحاد من العلماء

و القرآن يصف لنا هؤلاء العلماء بأنهم أولي ألباب

"إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب "

و هؤلاء العلماء من (أولي الألباب) قد انتهوا إلى أن

الضرورة لا تفسر الاختلاف في صور الجمال، كما  أن الصدفة لا تفسر الوفرة في الجمال

و من يتأمل آيات الجمال في الطبيعة يتصل بالعقل الذي أوجد الاختلاف والتباين في أوجه الجمال وفي هذا إلغاء لمبدأ الضرورة ، وكذلك فإنه يتصل باليد المبدعة التي أغدقت الجمال بسخاء في الطبيعة وفي هذ إلغاء لمبدأ الصدفة الذي  يعتمد على الندرة

و من يتأمل في الجمال يتصل "ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار"

آل عمران 191

أما الإنسان وهو المخلوق الأرفع منزلة في التصور الإسلامي ومن أمرت الملائكة بالسجود  تكريما له فالعلاقة متبادلة وليست كما هي في الجماد  والحيوان والنبات

فمن يتأمل وجها جميلا يسبح الله ومن يسبح الله يصبح جميلا.!!..

وهذا ما أشار إليه الله سبحانه في الآية  

"سيماهم في وجوههم من أثر السجود "الفتح29

والجمال الداخلي حسب هذا التصور هو جمال مطلق  بينما الجمال الخارجي هو جمال نسبي كما يعبر عنه تشارلز داروين بقوله (من الجلي أن الإحساس بالجمال يتوقف على طبيعة العقل بصرف النظر عن أي حقيقة في الشيء محل الإعجاب)

بعد أن انتهت محاضرتي  اقتربت مني "جميلة"  تسألني بعتاب ودمعة حيرى تجول في مقلتيها( ها قد تكلمت ساعة عن الجمال ..أين أنا منه؟؟)

وبين جميلة التي أتمت الإعدادية  ،وبين هوكينغ عالم الفيزياء الأول في العالم  مسافة من آلاف السنين الضوئية علما وظروفا وبيئة وعقيدة

ولكن كلاهما فقدا الصلة بالجمال!!

وجميلة نشأت في بيئة حيث الإيمان فيها سمة ظاهرة جلية فأهلها صيام قيام، يهرعون للمساجد آناء الليل وأطراف النهار ، ويحجون للديار المقدسة كل عام

في دارها العربية القديمة يشدو الطير على اختلاف أشكال وألوانه وفي جنتها المدهامة  يطيب العيش لوفرة  ظلالها ونقاء هوائها

القمر في فنائها حالم واعد والنجم في ليلها باسم ساهر والياسمين في جنباتها سخي الشذى والزهر في أشجارها عبقري اللون والندى  

وهكذا فإن كل قوانين الضرورة واحتمالات الصدفة تنحسر أمام أمواج الجمال المتدفقة في تلك الدار الرائعة

 ولكن بين جميلة والجمال  أكثر من حجاب

عندما حاولت أن تفتح النوافذ كي تبصر الجمال ضرب بينها وبينه ألف حجاب

وسخرية الأهل كانت حجابا منعها من متابعة علمها (لما كبر وشاب ، راح للكتّاب)المثل الذي كان يطاردها كلما جلست إلى الكتاب

 وفخر النسب  والعشيرة كانت حجابا آخر منعها أن تجد عملا  شريفا مناسبا

وعندما  كانت منهمكة في أعمال الدار الشاقة من تنظيف وغسل وكي وطبخ تبينت أن القطار قد فاتها  مرات ومرات بينما أدرك الإخوة والأخوات

لما  شارفت  الأربعين  حط فارس ثري جوال في فناء الدار فأوقظ حلما غافيا وأضاء أملا  كاد أن ينطفئ ولما تعاظم الأمل وغمر حياتها القاحلة  بنوره الواعد  اكتشفت أن الفارس المنقذ إن هو إلا أفاق كاذب  وعرفت أن صهوة حصانه الأبيض  مزدحمة بنسائه الأربع ...وأنه كان يلهو بمشاعرها فحسب.

سقطت جميلة في هوة أزمة نفسية حادة وتنكر لها  الأصدقاء وأعرض عنها الأحباء

وجميلة لها من اسمها كل النصيب ، فهي كريمة النفس، دمثة الطبع ،وديعة الأخلاق ولكن جمالها الداخلي لم يستطع التصدي لقبح العالم من حولها

  وبين هوكينغ وبين الجمال حجاب اسمه الإلحاد

"وقالوا قلوبنا في اكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب " فصلت5

وبين جميلة وبين الجمال حجاب اسمه القبح

و الله يغدق  على "خليفته" الجمال ، والإنسان يمعن في زرع القبح ونشر الفساد فيسخر ويتكبر ويكذب ويعد ويتنكر لما وعد

وإذا كان الجمال والإيمان وجهان لورقة واحدة فإن القبح والإلحاد وجهان لورقة واحدة تصلح أن تكون حجابا منيعا للصلة بالله

ويبدو أن  كل فساد يعود بأهل الإيمان إلى  نقطة الصفر والحاجة إلى تجديد الإيمان لإزالة الحجب  وإعادة الصلة بالله وفي سورة النساء136

"يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله"

وعند خلق الإنسان الأول  تساءلت الملائكة ذات يوم بدهشة وإشفاق وهي تتأمل  (صنع الله الذي أتقن كل شيء)

"أتجعل فيها من يفسد فيها"؟؟سورة البقرة