أسرار الحياة 48

المقالة الثامنة والأربعون

ترجمة: د. خالد السيفي

الذبابة تحبُ رائحة اللحم النتن

بالنسبة لها رائحة خشب الصندل كريهة

لماذا قتل الناس سقراط

وكما سبق وقلت إن الفردَ منكم اقرب إلى الماكينة منه إلى الإنسان الحقيقي، الإنسان الحالي آلة، لأنه يعيش في دائرة مغلقة من عاداته وماضيه وذاكرته. الناس تعيش في قديم تجاربها وتكره الجديد.

ولأن الحقيقة جديدة، ودائما متجددة، ولأنها لم تكن يوما من الذاكرة او فيها، فان الذاكرة بدورها تقاومها وترفضها. ما أنت إلاّ ذاكرتك؟!

الإنسان الماكينة كالذبابة التي تعشق رائحة اللحم النِّتن وتكره عبير خشب الصندل، لأن ذاكرتها مربوطة بلذة العفن الناتج عن فساد اللحم.

الذبابة دائما اعتَبرَت النَّتاَنة أريجا، وكريه العفن شذىً. هذه خبرتها وهي عادتها ومعرفتها، وهي فيها غارقة.

وفجأة، تقع على خشب الصندل الفوّاح ذي العبق الذكي، فماذا تظنها "تفكر"؟

إنها لن تستسيغ هذا العِطر، لان لا خبرة لها فيه، ولا ذاكرة لديها عنه، بل على العكس ستأنَفَه وتقلع عنه معتبرة إياه كريها، فالأشياء بالنسبة لها مقلوبة.

لا تستغرب ولا تدهش، هذا ما يحصل لك، إن عشت طويلا في قديمَك، أي في عقلك وتجارب جسدك، كالذبابة!.

لذا، إن أنت صادفت شخصا روحانيا او قديسا فقد يربكُك، وان دنوت منه فقد لا تتنسم أريج الطهارة حوله ، بل ستأنفه وتُعرِض عنه فتولّي هاربا..............لأنك ذبابة؟!.

هذا هو فهمك لهذه الأمور، وإلاّ قل لي لماذا قتل الناس عيسى بن مريم؟. عيسى كان بمثابة خشب الصندل، وهم بكل بساطة قتلوه.

لماذا سَمّمَ الناس سقراط؟. سقراط كان كخشب الصندل، لكن الذباب، الذي لا يعرف، ولا يعيش إلا من خلال ماضيه وعاداته، فَسّرَ وحَكَمَ وقتلَ مستندا لهذا الماضي.

قرأت يوما ان عاهرةً – الأشهر في أثينا – دخلت على سقراط، فوجدته وسط مجموعة من الناس، فقط بعض التلاميذ، مثلكم تماما. أجالت بصرها في المكان، وقالت مستغربة ومستنكرة: " سقراط لماذا؟!... لماذا يتواجد في حضرتكم فقط هذا العدد القليل من الناس، وأنت أعظم إنسان في أثينا، البعض يسمعك.

ظننت أن كل أثينا هنا لتنهلَ وتتعلم الحكمة منك. انني لا افهم، لا ارى المحترمين، ولا الإشراف، ولا السياسيين، ولا الفقهاء ولا حتى المثقفين، ما المشكلة يا سقراط. تعال يوما إلى بيتي وستجدهم طابوا على بابي ينتظرون".

فقال سقراط " نعم هذا صحيح، فأنت تُلَبّين لهم خدمة عالمية، بل كونية. أما أنا فلا. أنا اجتذب البعض فقط. الآخرون لا يشعرون شذاي، إنهم يتجنبونه، حتى وان صادفوني فانهم يتجاهلونني ويهربون من طريقي، إنهم يخافونني، ما عندي عبق مختلف عما عهدوه".

من الواضح أن هذه المومس كانت مثقفة أو على الأقل ، على درجة لا بأس بها من الذكاء.

وفجأة، نظرت هذه المرأة في عيني سقراط وانحنت إجلالا قائلة " سقراط، أتقبلني صديقة لك"، ولم تبرح أبدا محضره. أصبحت جزءا من مدرسته الصغيرة.

هذه المرأة كان عندها بعض الوعي ففهمت من هو سقراط، لكن أثينا قتلته. لم يرغبوا بشخص مثله. لقد تبدّى لهم انه خَطِر، فلفّقوا له تهما اخطر، إحدى هذه التهم " انه يدمر معتقدات الناس، ويُفسد الشباب ويعبث بعقولهم، وانه فوضوي، وإذا سُمح له العبث أكثر فقد يجتث هذا المجتمع من جذوره، انه الشيطان الرجيم".

وماذا كان يفعل سقراط؟! كان يقوم بكل ما هو غير مألوف لديهم، على الإطلاق. كان يحاول أن يؤسس لمدنيّة خارج نطاق العقل العادي والقديم. الناس اعتقدت أنه يدمر العقل. وهم محقّون بذلك؟!...... كالذباب.