التعريض والتلميح (37)
من أساليب التربية في القرآن الكريم
د.عثمان قدري مكانسي
[email protected]
عرّضَ في حديثه : لم يبيّنْه ولم يصرّح به .
وعرّضَ له وبه : قال قولاً وهو يعنيه ، ويريده ، ولم يصرّح به .
وللتعريض فوائد عديدة ، منها :
1ـ التنبيهُ دون الاتهام والتجريح .
2ـ التراجع عن الشيء دون حرج " حفظ خط الرجعة " .
3ـ تقبّل النصيحة دون فضيحة .
4ـ إيصال الأمر مغلفاً باللطف والأدب .
5ـ التعميم في الحديث دون لفت النظر إلى المعنيّ به .
6ـ المديح والتعظيم للعمل الطيب وأصحابه .
7ـ الجهل بالفاعلين ، أو القائلين ، وإظهار الرضا ، أو الامتعاض .
8ـ الذمّ والتحقير . .
وقد حرص القرآن الكريم ـ وهو يعلمنا ـ على هذا الأسلوب ، لما فيه من تلك الفوائد وغيرها .
ـ فهو على سبيل الجهل بالقائلين وذمّ مقالهم يحدثنا عن الكثير من الناس الذين لا يصل تفكيرهم أبعدَ من أرنبة أنوفهم ، فيطلبون الخير الزائل ، والمكسب القليل النافد فقط ، وهم بذاك يقطعون على أنفسهم الفضل العميم الزائد المستمر ، وعلى نفسها جنت براقش ((
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ))(1) .ويمدح مباشرةً أصحاب العقول الراجحة ، والنظرة الثاقبة الذين تتحرك قلوبهم ، وأفئدتهم نحو النعيم المقيم ، والخير الأبدي ، إلى رضى الله وجنته ((
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) ))(2) .لم يحدد الطرفين ، ولكنهم كثير (( الناس )) كمٌّ هائل ، ولفظ عام ينضوي فيه ابناء آدم إلى يوم القيامة .
ـ ومن الأمثلة على التعريض والتلميح في التوبيخ والذم قوله سبحانه : (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
))(3) .فقد أصاب المسلمين يوم أحد جراحات . . فما إن عادوا إلى المدينة حتى أرجف المنافقون فيها ـ وهم لفظ( الناس) الأول ،أما المشركون فلمّح إليهم لفظ (الناس) الثاتي ، وقد فكر المشركون أن يعودوا إلى المدينة ليستأصلوا المسلمين . . فماذا فعل المسلمون وماذا قالوا ؟ :
1ـ ازداد إيمانهم بالله لأنهم واثقون بنصره إياهم .
2ـ لجأوا إليه ، واعتمدوا عليه ، وتوكلوا عليه ، وهو سبحانه لا يخيِّبُهم .
3ـ ألقى الله تعالى الرعب في قلوب المشركين ، فانكفأوا عن المدينة إلى مكة ، وعاد المسلمون
راضين مطمئنين . فالشيطان يخوّف أولياءه ، وليس له سلطان على أولياء الله تعالى .
لكنَّ المسلمين جميعاً عرفوا المقصود من كلمة الناس الأولى ، وكلمة الناس الثانية ، وكذلك عرف المنافقون أنهم قد عُرِّضَ بهم ، فخنسوا وذلّوا . . .
ـ ومن الأمثلة على التعريض دون التصريح في التحقير والذم قوله سبحانه :
((
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
))(4) .فبعض المنافقين يروق للناس كلامهم ، ويثير إعجابهم بخلابة ألسنتهم وبلاغة بيانهم ، لكنَّ الله تعالى لا تجوز عليه سبحانه مثل هذه الأمور لأنه علام الغيوب ، المطلع على السرائر ، هؤلاء المنافقون يُشهِدون الله ـ زوراً ـ على صلاحهم المزعوم وكلامهم المعسول ، فإذا انصرفوا عن المسلمين عاثوا في الأرض فساداً ، فأحرقوا الزرع ، وأهلكوا النسل .
وإذا وُعظ هؤلاء الفجرة الأفّاكون ، وقيل لهم : اتقوا الله ، وانزعوا عن أقوالكم وأفعالكم القبيحة حَمَلَتْهم الأنَفَةُ ، وحميّة الجاهلية على الإغراق في الفساد ، والإمعان في العناد ، فعقوبتهم النار ، أعاذنا الله من عذابها .
ـ أما المؤمنون الأتقياء ، فهم بريئون ممّا يفعل أولئك ، بل إنهم يبيعون نفوسهم لله سبحانه ، يرجون ثوابه ، ويبتغون مرضاته ، وهؤلاء هم الذين سيرحمهم الله ، ويغفر لهم ، فهو الرؤوف الرحيم بحالهم ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) ))(5) .
ـ
ومن الأمثلة على التعريض يالمفسدين علماً بما يفعلون ، وتحذيراً منهم قوله تعالى :
((
فكل من يشتري ما يلهي عن طاعة الله ، ويصد عن سبيله ، مما لا خير فيه ، ولا فائدة نحو السمر بالأساطير ، والتحدث بما يضحك ، وما لا ينبغي ، ليضل الناس عن طريق الهدى ، ويبعدهم عن دينه القويم بغير حجة ولا برهان ، ويستهزىء بكتاب الله له عذاب شديد مع الذلة والهوان .
فإذا أفهمته ما يجب أن يفعل ليكون من عباد الله المتقين ، ونهيته عن مباذله ومفاسده صك أذنيه ، وأدبر متكبراً كأنه لم يسمعها ، ويتغافل عنها ، راغباً عنها ، فلهذا ولأمثاله عذاب أليم .
والآيات التي استشهدنا بها بدأت كلها بقوله : (( وَمِنَ النَّاسِ )) دون أن يحددهم للأسباب التي ذكرناها . وأصحابها يعرفون أنفسهم ، فيغتاظون ، والمسلمون يعرفونهم ، فيحذرونهم ، ويتجنبون الوقوع فيما وقع فيه هؤلاء .
ـ ومن الأمثلة على التعريض توبيخاً ، وذمّاً ، وتقريعاً قوله تعالى في المنافقين : ((
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
))(7) .فهؤلاء المنافقون يعتقدون أن الله تعالى لن يكشف للمؤمنين شكهم ونفاقهم ، وأنّه لن يظهر بغضهم وحقدهم على المسلمين . . بل إنه ـ سبحانه ـ فاضحهم ، وكاشفُ أمرهم ، ولو أراد الله سبحانه لعرَّف لرسوله عليهم بأشخاصهم ، وعلاماتهم . . كما أنهم يكشفون أنفسهم في طريقة كلامهم وأسلوب عرضه وتعريضهم بما يسيء للإسلام والمسلمين .
والله سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوب عباده كلهم ، شاكرهم ، وعاصيهم ، مؤمنهم وفاجرهم ، وقوله : ((
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ )) هو التعريض والتلميح نفسه ، فلحن القول عدم التصريح به .
(1)) سورة البقرة ، الآية : 200 .
(2) سورة البقرة ، الآيتان : 201 ، 202 .
(3) سورة آل عمران ، الىيات : 173 ـ 75 .
(4) سورة البقرة ، الآيات : 204 ـ 206 .
(5) سورة البقرة ، الآية : 207 .
(6) سورة لقمان ، الآيتان : 6 ، 7 .
(7) سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، الآيتان : 29 ، 30 .