السلام العالمي والإسلام

د. عبد الله الطنطاوي

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

مقدمة

لماذا هذا الكتاب؟ ولم الآن؟

كتب الأستاذ الرائد الشهيد هذا الكتاب عام 1950 أي بُعيد عودته من أمريكا، وبعد مشاهداته ومطالعاته للمجتمع الأمريكي الذي يمثّل قمة الحضارة الغربية الرأسمالية، وقد تحدث سيد عن هذه الحضارة الموغلة في ماديتها، في كتاب (معركة الإسلام والرأسمالية) الذي سبق هذا الكتاب، وفي كتابه الذي لم تساعده ظروف (الثورة) على طباعته، وهو (أمريكا التي رأيت) وقد قرأنا بعض فصوله التي جُمعت – فيما بعد – في كتاب..

وطُبع هذا الكتاب عام 1951 يعني: كتبه وطبعه في العهد الملكي (البائد) ليخلفه عصر (ثوري) دموي أرجع بأرض الكنانة عقوداً إلى الوراء، ما تزال مصر – أمُّ الدنيا – وشقيقاتها العربيات، تئنّ تحت سطوة أصحاب (البساطير) الغلاظ، غلظة قلوبهم، الجامدة جمود عقولهم – حتى أيامنا هذه..

وفي هذا العهد (الثوري التحرري) أعيد طبع الكتاب مرات ومرات، ولكن بعد أن أَمر المسؤولون العساكر المهيمنون على الثقافة ودوائرها، بحذف الفصل الأخير من الكتاب – كما سيأتي – أمّا الآمرون فهم (الأسياد) الذئاب الثعالب الذين مكّنوا العساكر من حكم مصر، عبر انقلاب ثورة 23 يوليو (المجيدة).. مع أن هذا الكتاب (السلام العالمي والإسلام) يصبّ في خانة الشعارات (الثورية) والثقافة التي كان الانقلابيون يستمدونها من سيد، عندما كانوا يتظاهرون بالتلمذة على فكره الثائر على الفساد والمفسدين في العهد الملكي، من الرأسماليين والإقطاعيين السائرين في ركاب القصر الفاسد الظالم، وفي (ظلال) الاستعمار البريطاني البغيض، المؤسس للكيان الصهيوني في الأرض التي باركها الله، ليكون – الكيان – سبب كل بلاء ألمَّ بالعروبة والإسلام، بـ (فضل) الرجل الأبيض في أمريكا والغرب، والرجل (الأحمر) في روسيا الحمراء، ومنظومتها الاشتراكية الخاضعة لها في استعمار (أحمر) كان أقسى وأشدّ بؤساً وتعاسة من الاستعمار الغربي (المتحضر جداً) وصاحب نظريات (حقوق الإنسان) التي نتفيّأ (ظلالها) الوارفة، في شرقنا العربي ومغربه.

سيّد السيّد بشّر بسقوط الحضارتين: الرأسمالية والشيوعية، وقد سقطت الثانية، والأولى على الطريق، بمشيئة الله وعونه، وإذا فشل استفتاء اسكوتلاندا اليوم، فسوف ينجح هو وغيره غداً، وسوف تكون بريطانيا (بريطانيات) وأمريكا (أمريكات) والولايات الواحدة والخمسون، قد تكون أربعين دويلة أو خمسين، وما ذلك على الشعوب بعسير، ولا على الله بعزيز، ويومئذ يفرج (المنعَّمون) بأنوار حضارتهم في شرقنا العربيّ الذي يتلاعبون به منذ قرن من الزمان، بتلك التشظيات التي سوف تمزقهم، كما مزقوا الوطن العربي إلى اثنين وعشرين دولة، وجعلهم الآن على الجرار، إن استطاعوا، ولن يستطيعوا، برغم كل عملاتهم، عبيدهم، الذين يفسدون في أوطاننا ولا يصلحون، فشعوبنا المغلوبة على أمورها قد استيقظت من سباتها الطويل، وسوف تكنس – تقتل – الطغاة العبيد الذين مردوا على الكذب والنفاق، واستمرّر قتل الشعوب المسحوقة على أيديهم الآثمة، وبتدبير أبالسة الشرق والغرب الحاقدين عليها، مع أنها – شعوبنا وليس شعبنا العربي، فقد جعلونا شعوباً في دول – لم تسئ إليهم، كل ذنب شعبنا أنه سعى ويسعى إلى تحطيم القيود التي كبّلوه بها، قيود الاستعمار والاستكبار والتعبيد، وما نجم عنه من تخلف وانحطاط، وما نزف من دماء ودموع أجروها من أجسادنا ومآقينا أنهاراً..

يا ويحهم.. بل يا ويلهم مما ارتكبت وترتكب أيديهم.

*   *   *

سيّد السيّد رجل السلام وداعية السلام في عصره، ودعوته إلى تحطيم الاستعمار المدمّر وطواغيته، إنما هي دعوة إلى السلام الذي لن يكون، إلا إذا تخلصت البشرية من طغيانهم وظلمهم وظلامهم، وظلماتهم التي يتراكب بعضها فوق بعض، فلا يرتاح الإنسان من الإنسان، ولا الإنسانية في وجودهم الجاثم على صدرها..

لقد تخلى العالم (الحر) – زعموا – عن مبادئه من أجل مصالحه المادية، بل من أجل مصالح شركاته التي تنتج الدمار للبشر والشجر والحجر، وهي تصنع السلاح الفتاك، لقتل الإنسان وقضاياها العادلة.. ومن قضاياه العادلة تكريم الإنسان الذي كرّمه الله، وخاصة المتميزين الذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً، كصاحب هذا الكتاب البديع في بابه... سيّد الذي حمل بين جوانحه، معانيّ حقيقية للإنسان وللسلام، معاني عميقة أراد أن يرسي بها السلام في وجدان الإنسان، وفي قلبه وعقله، ليكون – السلام – سلوكاً قيمياً، وشموساً فكرية تضوِّئ السُّبُل إلى السلام، ليحيا حياة إنسانية كريمة، حياة حرّة فيها الأمن والأمان، وليس فيها قلق ولا خوف، ولا ذعرٌ من زوار الليل المزعومين (قوى أمنية)..

سيّد السيّد لم يبسط يده ولا فكره لقتل أخيه الإنسان، بل بسطهما من أجل الإنسان، ومعالجة مشكلاته وقضاياه، ليحيا في سلام وجداني، وأسرّ، ومجتمعي، وفي محيطه الإنساني الكبير..

يا ويح مثقفنا العربي.. يا ويح النخب..

تعاف هذا العطاء النبيل.. تعاف فكر سيّد وثقافته وتعاليمه التي هي من الإسلام ومبادئه وأخلاقه، وتتآمر على سيد، وتتهمه، وتحكم عليه بالموت، وهو الذي سعى – حتى آخر أنفاسه – لإسعادها في دنياها وأخراها، فإن لم تُرِد الآخرة، لأنها – بعض النخب – لا تؤمن بها – فمن أجل دنياها.. من أجل الأوطان.. من أجل الشعوب.. من أجل القيم الإنسانية، القيم المادية الشريعة – إذا لم ترد القيم الإنسانية الروحية الشغيفة.. ولكنها لا تعمى الأبصار، بل تعمى القلوب التي في الصدور.. بل عميت أبصارهم وبصائرهم، فقادتهم إلى عبودية الطغاة العبيد، فأورثتهم نفاقاً جرّ الويلات على الإنسان وقيمه في دواخلهم فأعتمتها، وعلى أهليهم وشعوبهم فأَشْقَتها، وإلى تاريخهم فأردتْه في فيضان الجحيم.. ثم.. على من يضحكون؟

اقرؤوا فكر سيّد، فهو ينظر بنور الله، اقرؤوه وتدارسوه، فإنه يتحدث إليكم.. إلينا.. إلى الشعوب حيث كانت.. وكونوا منصفين مع أنفسكم، ومع أهلكم، ومع شعوبكم، فسيّد سيّد الدعاة إلى السلام، وإلى كرامة الإنسان، وسعادة البشر.. حمل فكراً نقياً لم تَشُبْه شائبة نفاق لمخلوق، ولا لُوْثة مادية، من جاه وشهر ومال، فسبق عصره بعشرات السنين، وهو يتحدث إلينا، وعن مشكلاتنا وقضايانا وظروفنا العصيبة الدقيقة في هذه الأيام..

اقرؤؤوه وأنيروا بصائركم، اقرؤوه بحياد، وبنَفَسٍ وطني يا دعاة الوطنية..

وقومي يا دعاة القومية..

وإسلامي يا دعاة الإسلام والإسلامية..

من أجل أوطانكم..

من أجل عروبتكم..

من أجل إسلامكم وقيمكم الروحية والخلقية..

ومن أجل كل ذلك..

ولن تضلوا بعده.. فقد رسم لكم معالم الطريق في وعي أو تجرد، وصدق.. اقرؤوه جيداً.. ولن تضلُّوا..

اقرؤوا هذه الأفكار التي وردت في هذا الكتاب القيم، غيض من فيوضات عقله الكبير المستنير بنور الله بارئ الخلق وراحمه.

قال سيد:

- أمامنا اليوم مشكلة السلام العالمي التي تواجهها البشرية جميعاً، ونواجهها نحن ضمنناً، فهل للإسلام فيها رأي؟ ولها عنده محل؟

(وهذا الكتاب هو الإجابة التفصيلية على هذا السؤال).

- هذا الدين لا يعالج مشكلات الحياة الإنسانية أجزاء وتفاريق، إنما يرجعها إلى نقطة ارتكاز واحدة ويديرها كلها حول محور جامع واحد...

- الإسلام دين الوحدة الكبرى في هذا الكون الكبير.. الوحدة بين جزئياته جميعاً: من الذرة المفردة إلى أرقى طبقات الحياة المركبة.

- والإسلام يزيل كل أسباب النزاع والعنصرية بتقرير وحدة الإنسانية في طبيعتها وفي أصلها وفي نشأتها، وبتقرير الغاية من تفرق الأجناس والقبائل، والنص على أنها التعارف والتآلف، لا التناحر والتدابر.

- السلام في الإسلام هو القاعدة الدائمة، والحرب هي الاستثناء، لذا فإن الإسلام يستبعد الحروب التي تثيرها القومية العنصرية، وكذلك الحروب التي تثيرها المطامع والمنافع كحروب الاستعمار والاستغلال والبحث عن الأسواق والخامات، كما يستبعد الحروب التي يثيرها حبّ الأمجاد الزائفة للملوك والأبطال، أو حبّ المغانم الشخصية والأسلوب..

- الإسلام يدعو المسلمين أن يقاتلوا المسلمين البغاة لردّ البغي وتحقيق القسط، فهو يدعوهم إلى رفع الظلم عن أنفسهم، وعن كل مظلوم لا يملك له دفعاً.

- الإسلام ينشد السلام في علاقة الفرد بربه، وفي علاقة الفرد بنفسه، وفي علاقة الفرد بالجماعة، ثم ينشده في علاقة الطائفة بالطوائف، وعلاقة الأفراد بالحكومات، ثم ينشده في علاقة الدولة بالدول..

إن من ينشد السلام في العالم ويسمّي كتابه (السلام العالمي والإسلام) كيف لا ينشد السلام في بيته ومجتمعه ودولته وإخوانه في الإنسانية؟

إن الذي ينشد سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع، ويحدّد معالم الطريق إلى ذلك عالم وعارف بأدوار المجتمع ليس بجاهل، وعندما يطلق على المجتمعات لفظ الجاهلية لا يعني بذلك كُفرها ولا تكفيرها، وإنما جهلها وعدم معرفتها وعلمها بما يصلحها ويوصلها إلى مصاف الدول العظمى التي تحقق الأمن والسلام لبني الإنسان حيثما كان..

اقرؤوا ما كتبه سيّد الذي قدّم حياته وروحه من أجلكم إيها الناس... ولن تضلّوا