العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكاً
النداء الخمسون
[العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكاً]
رضوان سلمان حمدان
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }التوبة23
المعاني المفردة([1])
أَوْلِيَاء: أي بطانة وأصدقاء. جمع وليّ وهو من تتولاه بالمحبة والنصرة ويتولاك بمثل ذلك.
اسْتَحَبُّواْ: اختاروا. أحبوا.
الظَّالِمُونَ: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن أحب من لا تجوز محبته فقد وضع شيئاً في غير موضعه فهو ظالم.
الإعراب([2])
(لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) لا: ناهية. تتخذوا: مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل. آباءكم: مفعول به. وإخوانكم: عطف عليه. أولياء: مفعول به ثان. والجملة استئنافية مسوقة للرد على ما قالوه بعد ما أمر اللّه تعالى بالتبري من المشركين.
(إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) إن: شرطية. استحبوا: فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط. الكفر: مفعول استحبوا. على الايمان: جار ومجرور متعلقان باستحبوا المتضمن معنى اختاروا.
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو استئنافية. من: شرطية مبتدأ. يتولهم: فعل الشرط وقد روعي فيه اللفظ فأفرد ، منكم: حال. والفاء: رابطة. أولئك: مبتدأ. هم: ضمير فصل أو ضمير مبتدأ. الظالمون: خبر أولئك أو هم والجملة خبر أولئك وقد روعي فيه جانب المعنى لمن.
سبب النزول([3])
لما أمر المسلمون بالهجرة جعل الرجل يقول لأهله إنا قد أمرنا بالهجرة فمنهم من يسرع إلى ذلك ومنهم من يتعلق به عياله وزوجته فيقولون ننشدك الله أن تدعنا إلى غير شيء فيرق قلبه فيجلس معهم فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح عن ابن عباس.
في ظلال النداء([4])
إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكاً؛ فإما تجرد لها ، وإما انسلاخ منها ، وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ؛ ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة . . كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب ، ويخلص لها الحب ، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة ، وهي المحركة والدافعة . فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة ؛ على أن يكون مستعداً لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة .
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع ؛ وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض . فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة وبالزوج والعشيرة ؛ ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن ؛ ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق - في غير سرف ولا مخيلة - بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب ، باعتباره لوناً من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده ، وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء - إن استحبوا الكفر على الإيمان - } . . وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب ، إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة . وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في الله . فلله الولاية الأولى ، وفيها ترتبط البشرية جميعاً ، فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك ، والحبل مقطوع والعروة منقوضة .
{ ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } . . و { الظالمون } هنا تعني المشركين . فولاية الأهل والقوم - إن استحبوا الكفر على الإيمان - شرك لا يتفق مع الإيمان .
هداية وتدبر([5])
1. بعد أن أعلن الله تعالى براءته، وبراءة رسوله من المشركين، وآذنهم بنبْذ عهودهم، بعد أن قرر تعالى أنهم لا عهود لهم، عز ذلك على بعض المسلمين، وتبرم منه ضعفاء الإيمان، وكان موضع الضعف نصرة القرابة والعصبية، فقال الله تعالى: إن فضل الإيمان والهجرة والجهاد لا يتحقق، ولا يكتمل إلا بترك ولاية الكافرين، وإيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، على حب الولد والوالد والأخ والعشيرة، فنهى الله المؤمنين عن موالاة الذين يختارون الكفر على الإِيمان. وتوعد من يتولاّهم من المؤمنين بالعقاب الشديد، في هذه الآية، وفي آيات أخرى، وعد من يتولى الكفار، ولو كانوا آباء أو إخواناً، من الظالِمِين. (وكثيراً ما عبر الله تعالى عن الكفر بالظلم وماثل بينهما).
2. قال الطبري: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسرارَكم، وتطلعونهم على عورة الإسلام وأهله، وتؤثرون المُكْثَ بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام إن اختاروا الكفر بالله، على التصديق به والإقرار بتوحيده، ومن يتخذهم منكم بطانة من دون المؤمنين، ويؤثر المقَام معهم على الهجرة إلى رسول الله ودار الإسلام هم الذين خالفوا أمرَ الله، فوضعوا الولاية في غير موضعها، وعصوا الله في أمره.
3. لما ذكر تعالى قبائح المشركين، واثنى على المهاجرين المؤمنين، الذين هجروا الديار والاوطان حبا في الله ورسوله، حذر هنا من ولاية الكافرين، وذكر ان الانقطاع من الاباء والاقارب واجب بسبب الكفر.
4. الخطاب للمؤمنين كافة وهو حكم باق إلى يوم القيامة يدل على قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين وقالت طائفة من أهل العلم: إنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب نهوا أن يوالوا الآباء والإخوة فيكونون لهم تبعاً في سكنى البلاد والكفر إن استحبوا: أي أحبوا كما يقال: استجاب بمعنى أجاب وهو في الأصل طلب المحبة، ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان من الآباء والإخوان بالظلم فدل ذلك على أن تولي من كان كذلك من أعظم الذنوب وأشدها.
5. الولي هو الذي يليك وينجز ما تحبه، وتلجأ إليه في كل أمر، وتأخذ منه النصيحة، كما أنه القادر أن يجيرك حين تفزع إليه، ويكون دائما بمثابة المعين لك، والقريب الذي يسمع منك، إذا استغثت يغيثك وينصرك، ويكون معك في كل أمورك. إن قارنا بين طلب المخلوق وطلب الخالق.
6. إن أردتم أن يكون بناء الإسلام قوياً لا خلل فيه، فإياكم أن يكون انتماؤكم غير انتماء الإيمان، فهو فوق انتماء النسب والحسب وغير ذلك، وإن قارنا بين طلب المخلوق وطلب الخالق، فما يطلبه الخالق فوق ما يطلبه المخلوق؛ لأنك إن أغضبت المخلوق في رضا الخالق تكون أنت الفائز، ويقذف الله في قلب كل من حولك رضاهم عنك، وسيقال عنك صاحب مبدأ وضمير، ولا ترضى أن تغضب الله ليرضى عنك أحد. وإن أسخطت الله لإرضاء مخلوق مهما كان، تجد أن الله يجعل هذا المخلوق يسخط عليك ويحتقرك. فإن شهدت زورا لصالح بشر. يعرف عنك هذا الذي شهدت زوراً في حقه أنك شاهد زور فلا يأمنك، وإن جئت بالصدفة لتشهد عنده فهو لا يقبل شهادتك ويحتقر كلامك.
ولذلك قال الحكماء: شاهد الزور قد يرفع رأسك على الخصم بشهادته، ولكنك تدوس بقدمك على كرامته لأنه سقط في نظرك.
والانتماء إذن هو انتماء لله، فإن صادفك قريب يريد منك أن تفعل ما يغضب الله فلا تطعه، ولكن لا تكن فظاً معه. وخصوصا مع الوالدين لأن الله سبحانه وتعالى يقول عنهما:{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىا أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً }[لقمان: 15].
7. اقتضت حكمة إقامة الدين ومصلحة المسلمين حين نزول القرآن أن تكون هناك قطيعة تامة بين المؤمنين وأقاربهم الكافرين، حتى يبقى الدين سليماً، فلا يتجزأ الانتماء وتتوزع العواطف، ولأن رابطة الدين أسمى وأولى وأقوى من رابطة القرابة أو العصبية أو القبلية أو الأسرية. والمراد بالإخوان في الآيتين إخوان النسب.
8. النهي عن مخالطة غير المؤمنين للتحريم لا للتنزيه، لوصف من تولاهم أو خالطهم بأنهم هم الظالمون.
9. { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } قال ابن عباس: يريد مشركاً مثلهم لأنه رضي بشركهم، والرضا بالكفر كفر، كما أن الرضا بالفسق فسق. قال القاضي: هذا النهي لا يمنع من أن يتبرأ المرء من أبيه في الدنيا، كما لا يمنع من قضاء دين الكافر ومن استعماله في أعماله.
10. كان سيدنا مصعب بن عمير أكثر الفتيان تدللا في مكة، وكانت حياته في مكة قبل إسلامه غاية في الترف، وكان يرفل في الثياب الفاخرة، فلما هاجر إلى المدينة عاش ظروف الفقر المادي الصعب، لدرجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآه في الطريق ساترا عورته بجلد شاة فلفت النبي عليه الصلاة والسلام نظر الصحابة إلى حالته هذه وكيف فعل الإينما بمصعب حيث فضل الإيمان على نعيم الدنيا كلها.
11. روى أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أنس: « لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها » .
لطائف
12. قال العلامة القرطبي: دل قوله تعالى {لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء} على أن القرب قرب الاديان، لا قرب الأبدان، وقد أنشدوا في ذلك أبياتاً:
يقولون لي دار الأحبة قد دنت ... وأنت كئيب إن ذا لعجيب
فقلت وما تغني ديار قريبة ... إذا لم يكن بين القلوب قريب
فكم من بعيد الدار نال مراده ... وآخر جار الجنب مات كئيب
13. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد يستدل بالآية على أن الولد يكون مؤمنًا بإيمان والده؛ لأنه لم يذكر الولد فى استحبابه الكفر على الإيمان، مع أنه أولى بالذكر، وما ذاك إلا أن حكمه مخالف لحكم الأب والأخ. وهو الفرق بين المحجور عليه لصغره وجنونه، وبين المستقل، كما استدل سفيان بن عُيَيْنَةَ وغيره بقوله: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور:61]، أن بيت الولد مندرج فى بيوتكم؛ لأنه وماله لأبيه .
14. والإحسان والهبة مستثناة من الولاية. قالت أسماء: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي راغبة وهي مشركة أفأصلها ؟ قال: (صلي أمك) خرجه البخاري .
[1] . محاسن التأويل. مختصر تفسير البغوي. الجامع لأحكام القرآن. أيسر التفاسير/ أبو بكر الجزائري.
[2] . إعراب القرآن وبيانه.
[3] . زاد المسير.
[4] . في ظلال القرآن.
[5] . صفوة التفاسير. فتح القدير. مجموع فتاوى ابن تيمية (التفسير). تفسير الشعراوي. التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج. التفسير الوسيط للزحيلي. أيسر التفاسير/ أسعد حومد. مفاتيح الغيب / الرازي.