نقاط فوق الحروف

محمد السيد

[email protected]

الإسلام سابق في:

أولاً_ الانسجام بين الإنسان والبيئة

قال تعالى : (( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) )) سورة النبأ

في محاضرته في مركز الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد، بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاماً على تأسيس ذلك المركز، قال الأمير "تشارلز" ولي العهد البريطاني، بعد أن استعرض ما يجري من تدمير للبيئة والطبيعة، الناتج عن التطبيق العملي للرؤية الغربية التجزيئية، الخالية من معاني الحرمة للأرض والطبيعة، تلك النظرة التكاملية المادية والروحية كما هي راسخة في الإسلام، وقد وضح الأمير قوله ذلك بالبيان الآتي :

(... إذا وضعت المنطق الكمي إلى جانب الفلسفة والإدراك الروحي الإيماني للحياة سوياً كما فعل الإسلام في أكثر صوره نقاء على الدوام، فإن تلك اللغات تصبح متكاملة بطريقة ممتازة، خذ على سبيل المثال ما أحدثه هذا التصور من فارق خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين ... ستجد أنها كانت فترة شهدت نمواً رائعاً للتقدم العلمي، لكن كل هذا التقدم كان مبنياً على فهم فلسفي للواقع راسخ في روحانيته، ويحتوي على احترام كامل لحرمة الطبيعة والأرض) . ثم يضيف الأمير "تشارلز" إلى ذلك قوله: (إن العالم الإسلامي يحوي واحدة من أعظم كنوز الحكمة المتراكمة والمعرفة الروحية الموجودة لدى البشرية، وهي تشكل في الوقت نفسه تراث الإسلام النبيل، وهدية لا تقدر بثمن لباقي البشرية، ورغم هذا كثيراً ما يتم استصغار تلك الحكمة الآن بسبب التوجه السائد لتبني المادية الغربية، حيث الشعور بأنه لتكون معاصراً وحداثياً، فإن عليك أن تقلد الغرب) نص المحاضرة موجود بكامله في موقعه على الإنترنت لمن يريد أن يتابعها .

لقد أطلت في الاقتباس من كلمة الأمير "تشارلز"؛ نظراً لأهمية صدور مثل هذا الكلام المنصف، الداعي إلى الاشتراك الإنساني في الرجوع إلى ما في الإسلام من كنوز تفتقدها البشرية جمعاء في عصرنا، هذا العصر الذي سيّر البشرية على ساق واحدة، وجعلها تنظر بعين منفردة، مغيباً العين الأخرى، التي تفهم اللغة المتكاملة للإنسان بالاشتراك مع العين الأولى، حيث يعملان معاً؛ بلغة الأرقام، تكملها لغة الروح والأخلاق والمبادئ والقيم، وهما يعملان هذا العمل الرائع المهتدي بهدي الإسلام حتى في مجال انسجام البيئة مع الإنسان، ذلك المجال الذي قد يظن بعض من طمسوا العين الثانية أن الإسلام ليس فيه ذلك التقدم العلمي الخاص بالبيئة والمكان، فأين هؤلاء الذين يَتَسَمّوْن بأسماء عربية إسلامية من هذا الأمير المثقف، الذي لم يدع لحضارته المادية أن تغطي على محاسن حضارة الإسلام وتراثه القرآني الفذ .

وانظر إلى الآيات التي أوردناها في صدر هذه العجالة، وتدبر وتأمل ، فما الذي تخرج به من تأملك فيها ومن تأملك؟ أيضاً في آيات صدر سورة النحل بدءاً من الآية الرابعة وحتى الآية الثامنة عشرة ؟ سوف تجد نفسك أمام لوحة عظيمة من تصور عميق ودقيق وفائق لعلاقة الإنسان بالبيئة وما حوله ، ينعم فيها هذا الإنسان بانسجام ولا أجمل ولا أنعم ولا أنظم مع كل الأشياء التي حوله . وإليك بعض ما يلفت النظر بعد التأمل:

1_ أول ما يلفت النظر في الآيات ، أن هذه المخلوقات التي أولها الإنسان وآخرها النبات ، وما بينهما الماء والهواء والجنات الأرضية والشمس والقمر والجبال الراسيات، والليل والنهار والنوم واليقظة والسماوات من غير عمد ترونها، والدواب التي فيها منافع وفيها جمال وزينة، والنجوم التي بها تهتدون وتتذوقون جمالها وهي ترصع سماوات سبعاً شداداً بأنوارها .. والبحار.. هل نسيناها؟ إنها تلك المخلوقات الهائلة التي تحتوي معظم مساحة الأرض وتنتق لكم خيراتها، وتوطئ لسفنكم أكنافها، ونعماً كثيرة غير التي عددناها ، لا يمكن إحصاؤها ، وأقول : إن أول ما يلفت النظر هنا أن كل ذلك يعود إلى مصدر توحيدي واحد هو الله الخالق البارئ المصور ، سبحانه وتعالى عما يصفون .

2_ ومن هذا المصدر التوحيدي ، ينبثق ذلك الانسجام والاتساق بين جميع العناصر المخلوقة ومنه يكون انسجام الإنسان مع أشياء هذا الكون من بيئة وطبيعة وغيرها، وهو ما نسجت كيانه الآية 44 في سورة الإسراء: ((تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)) إذ جعلت المخلوقات جميعاً في حالة انسجام تام، يقومون بتسبيح وتنزيه خالقهم مع قيامهم في الوقت نفسه بمهمات الحياة الأخرى ، التي أوكلت إلى كل نوع منهم .

3_ وبهذين العمودين ؛ عمود الروحانيات القائم على تسبيح الله وتنزيهه ، وتقديم آيات الطاعة لمنهجه ، وعمود الحياة وإعمارها القائم على الانسجام مع العمود الأول ، أقول : بهذين العمودين تقوم حياة منسجمة مع الفطرة التي فطر الله الناس وكل المخلوقات عليها ، فلا صراع ولا عدوان ولا افتئات على هدوء ذلك الانسجام الدافئ، فإذا وجدنا شيئاً من خلل في أنحاء العالم ، وخروجاً على ذلك الانجسام ، كان ذلك ناتجاً عن فعل آدمي خاطئ ، يريد للناس أن يصطرعوا صراعاً ظالماً على موجودات الكون ، صنعته النظرة الأحادية والسير على ساق واحدة مادية، نابذة للهداية والأخلاق والقيم .

إن الإسلام كان سابقاً في مناهجه حين وحّد بين العمودين الأساسيين في سيرة تقيم حياة نظيفة آمنة ، ينسجم فيها الإنسان مع مخلوقات الله الأخرى ، ومن هنا جاء قول رسولنا الكريم: (أحد جبل يحبنا ونحبه) . وقوله : (والله إنك لأحب أرض الله إليّ) ، وقوله : (دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض) ..أليس ذلك هو الانسجام المسكون بحياة ملؤها الأمن ، وشعارها الفوز بالحياتين ، وسيرها باتجاه إنسان حامل رسالة الله ؟

ثانياً: الإسلام سابق في حقوق الإنسان

1 من 2

قال تعالى : ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)) الإسراء : 70

أ_ تمهيد:

إنها آية عظيمة .. وكل آيات الله عظيمة؛ فهي تتكلم عن حقوق الإنسان وكرامته الإنسانية.. مهما كان مذهبه أو لونه أو عرقه أو مكانه في المجتمع: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...)) بغض النظر عن لونه أو لغته أو جنسيته أو عرقه أو دينه أو ملته.. إنها قاعدة عامة ماضية سارية مستمرة، مأمور بها وبتنفيذها المسلمون في كل زمان ومكان ، وهي قاعدة سبق بها الإسلام كل تشريع أرضي ، سواء أكان السبق من ناحية عمومها ، أو من ناحية شمولها كل الحالات ، أو من ناحية نبذ الثغرات والاستثناءات التي زاحمت الأصول في قوانين حقوق الإنسان ، التي يباهي بها الغربيون العالم .. يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي _رحمه الله_ في مقال له في مجلة (المسلمون) المجلد الأول ص501 : (النفس الإنسانية لها حرمتها، فلا يُعتدى عليها بأي نوع من العدوان؛ في حياتها، أو مالها، أو عرضها، أوعقيدتها، أو أمنها، يستوي في ذلك المقيمون في الوطن الإسلامي والطارئون عليه ، مسلمين وغير مسلمين ، فمن حق الجائع أن يطعم ، والعاري أن يكسى ، والشارد أن يؤوى ، والمريض أن يعالج ، وإن كان الجائع أو العاري أو الشريد أو المريض من قوم عدو للدولة .

ب_ أنواع الحقوق: سوف نتكلم عن ثلاثة أنواع منها، وهي :

1_ حرمة النفس والمال والعرض والكرامة : سبق أن ذكرنا في التمهيد شيئاً عن هذه الحرمة ، وكيف أن الإسلام حفظ للنفس الإنسانية وممتلكاتها الكرامة المطلقة بقوله تعالى : ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...)) ، ولنا أن نزيد هنا بأن نستنجد بقوله تعالى : ((وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)) الأنعام:151، ثم نستدعي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم) رواه ابن ماجة بسند صحيح .. والحق الوارد في الآية بينه الشرع الإسلامي بوضوح، بحيث لا ينشغل الناس بالقتل حسب الأهواء، والمطامع الأنانية، كما يفعل الغربيون اليوم في أرجاء العالم ، حيث ينشبون أظافرهم في جسد المسلمين ، متسترين بلافتات زائفة ، تحمل عناوين الحرب على الإرهاب أونشر الديمقراطية ! مع أن نواياهم تقول بشكل صارخ : إن سبب القتل والتدمير الذي يديرونه فوق الأرض اليوم لا سبب له إلا أطماعهم في ثروات العالم الإسلامي خاصة ، ثم حماية عصابة مغتصبة لأرض فلسطين ، شكلت فيها دولة مارقة ،صنعت على عين ظالمة ،ثم فرضت ، ثم جيء بكثير من الناس؛ من أهل الدنيا ، وأحلاس الخدمة لدى القوى المتنفذة في العالم ، كي يبصموا على وجود دولة تلك العصابة (ونرفزاتها) الكرتونية المتعاظمة.

2_ الحريات بأنواعها وهي ثلاث : حرية الاعتقاد ، حرية التفكير ، حرية التعبير عن الرأي .

-   أما حرية الاعتقاد: فهي تحكم بأوامر الله الواردة في القرآن الكريم ومنها : ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)) البقرة:256 ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22))) الغاشية ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) الكهف : 29

وهي آيات _كما ترى_ تطلق لابن آدم حرية اختياره لعقيدته وفكره وطريقة حياته، في حين أن من يدّعون أنهم أرباب الحرية والديمقراطية ، يجوبون العالم اليوم ، فيحرثونه قتلاً ودماراً من أجل فرض عقائدهم وفكرهم وطرائق حياتهم على الناس بالإكراه، وانظر إليهم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير والسودان ، وتعرف على حريتهم السوداء ، التي يلمعون بها أحذيتهم وجباههم بأصباغ الدم البشري ، الحلال في عقائدهم الزائفة، الحرام عند الله وعند الناس الأسوياء .

-    وأما حرية التفكير : فهي محكومة بالآية الكريمة : ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)) سبأ:46 وبالآية : ((فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ)) الطارق: 5 ثم الآية ((أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) )) الغاشية ، وبكثير من الآيات التي تدعو إلى حرية التفكير والاختيار الحر للفكر ، بعيداً عن إهمال العقل ، واتباع المألوف ، أوالمسكون بالأوهام والخرافات من الأفكار دون توقف أو تأمل : ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...)) البقرة: 170 وإذن فإن الإسلام سبق الأمم في الدعوة إلى حرية التفكير ونبذ الخضوع للمألوف الخاطئ ، في الوقت الذي كان فيه الإنسان في الحضارات الأخرى ما يزال يقتل من أجل دينه أو فكره أو رأيه؛ وليس قتل العلماء في أوروبا منا ببعيد! وليس الحجر القانوني على حرية اختيار اللباس أو اختيار الرموز الدينية في أوروبا، إلا حاضراً نعيشه اليوم في بلاد تدّعي أن مهاجمة الأديان والهزء بالأنبياء حرية رأي مصانة بالقانون ..!!

-   وأما عن حرية التعبير عن الرأي : فقد جعلت شريعة الإسلام حرية التعبير عن الرأي واجباً شرعياً على الإنسان المسلم إبداؤه وعرضه ونشره ، وليس حقاً فحسب ، وذلك في كل ما تقتضي مصلحة الأمة القول فيه ، وإبداء الرأي بشأنه : ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )) آل عمران: 104 . و (الدين النصيحة ، قلنا لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم، وهذه حرية مقيدة بالآداب والأخلاق الفاضلة ، وبالنصوص الشرعية ، وقد أخذت معظم الأمم اليوم بتقييد حرية القول، بحيث لا يمس النظام العام للأمة .        

3_ العدل : إن عنواننا في هذا البند هو الأية الكريمة : ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) الحديد :25 وكذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي رواه مسلم : (إن المقسطين عند الله على منابر من نور؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا) ؛ فالآية جعلت العدل أساس الرسالات السماوية وميزان صلاحها وبقائها ، والحديث جعل عدل الحاكم وعدل الناس في كل ما تولوا أمره سبباً في فوز الإنسان في الدنيا والآخرة ، فلو تمّ ذلك للناس، ونفذوه في حياتهم لعاشوا سعداء ، بعيداً عن القوّالين الغربيين والشرقيين ، المدّعين غير الفعالين، الذين يدمرون العدل باسمه .

الإسلام سابق في حقوق الإنسان

 2من 2

ج_ تطبيقات إسلامية :

قال تعالى: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)) التوبة/ 6

هذا الدين خاتم الأديان، ورسوله خاتم الرسل.. فكيف بدين خاتم لا يكون كاملاً وشاملاً وصالحاً لكل زمان ومكان، حتى يرث الله الأرض ومن عليها..؟!

يقولون: الاستجابة للإسلام حياة ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) الأنفال /24. ونقول : والحياة معك وفيك أيها الإسلام فوز ونجاة: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) الرحمن /46 ، و ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )) البقرة / 208 . وإذن فإن الإسلام هو السلام الفردي والمجتمعي والدولي ، أغير ذلك؟ وإذن فإنه الضياع في متاهات : ((إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)) الزخرف/ 20 . فبالإسلام تنال حقوقك وحريتك والعدل المنشود أيها الإنسان ، فهي جميعاً بين يديك نصوصاً وتطبيقات فذة ، لم يُشذّ عنها إلا في عتمة انسلت لواذاً ، ثم لم تلبث أن انقشعت ليعود الفضاء إلى حضن الإسلام الدافئ ، المسكون بمؤاخاة الإنسان للإنسان .. الهادر كسيل عارم ينبع من فيض التطبيقات على مدى الأزمان ، ولنرجع إلى ما سطروه من ملحمات في هذا السياق ، ولنبدأ بأمر ربنا جل وعلا : ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)) . نص بليغ يواكبه تطبيق دقيق ؛ فمن ذلك التطبيق: كان إعطاء الأمان بحفظ الحياة لرسول مسيلمة (ابن النواحة) ؛ الذي قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشرك ومعه رسالة كفر، وعاد إلى دياره سالماً بعد أن أُسمع كلام الله . وفيه أيضاً ما كان مثله في صلح الحديبية ؛ إذ كان  يقدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أناس من قريش ، مستفسرين،  أو يحاولون الاطلاع على أحوال المسلمين ، ومنهم عروة بن مسعود، ومكرز بن حفص ، وسهيل بن عمرو ، وكان بعضهم يحمل الرسائل . وقد قال ابن كثير في تفسيره بعد إيراد الحالات التي ذكرناها: )والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب ، وطلب .. أماناً ، أعطي أماناً مادام متردداً في دار الإسلام ، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه..). والشاهد أنه حتى المعادي يأخذ حقوقه في الأمن والسلامة والحرية والعدل في المعاملة ، ما لم يقم بأعمال أو أقول عدائية سافرة ، حتى في مثل هذه الحالة ، فإنه سوف يجد مقاضاة عادلة .    

وقد حفظنا من ذلك التطبيق دعوى أمير المؤمنين عليٍّ ضد يهودي بشأن درع افتقده، فوجده عند هذا اليهودي ، فلما كانت جلسة المحكمة، أصرّ أمير المؤمنين على الجلوس في نفس المقام الذي جلس فيه اليهودي بلا تفرقة ، ولما لم يستطع أمير المؤمنين أن يثبت حقه بالبينة القاطعة، حكم القاضي لليهودي ، وهكذا كان : فحق اليهودي محفوظ في محاكمة عادلة ولو مع رأس الدولة . كما أننا نحفظ قصة عمر رضي الله عنه مع المرأة ومهور النساء ، إذ نزل عمر على رأي المرأة قائلاً ، أخطأ عمر وأصابت امرأة، وبذلك أخذ المواطن حقه في حرية الرأي، في مواجهة مباشرة بالرأي مع رأس الدولة العظمى ، في مشهد لم يتكرر إلا في ظل الإسلام. ثم ألا تذكرون قصة عمر مع ابن الأكرمين ؟! بلى .. إنكم لتذكرونها ؛ فهي متوجة بالشعار الخالد: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!) . ولنسر مع الزمن ، لنجد قصة المأمون والعجوز وبيتها المتواضع الذي كان بمحاذاة قصر الخليفة ( المأمون ) ، وكانت ترفض بيعه للمأمون، وفي أثناء غيابها ضمه الحراس إلى القصر ، فلما حضرت العجوز ورأت ما فُعل ببيتها ، رفعت شكايتها إلى الله قائلة : (يا رب إذا كنت أنا غائبة فهل كنت أنت غائباً!) . ووصل دعاؤها إلى المأمون ، فأمر بإعادة الأرض والدار للعجوز . إنه العدل الذي ترعاه محاسبة النفس وليس عجز القوانين ، وإنه العدل الذي تحيطه مخافة الله بدروع تمنعه من الزلل .. وأما التطبيقات في حرية اختيار العقيدة فحدث ولا حرج ؛ إذ ما كان للمسلمين أن ينزلقوا لحظة إلى محاربة أحد من أجل أن يسلم رهبة من السيف ، لم يحدث هذا والمسلمون تلوح في أفقهم : ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) البقرة/ 256 ، ويرافقهم شعارهم الزاهي : ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) الكهف/ 29. فهم لا ينسون أن يعرضوا في بداية كل معركة على معاديهم أحد الخيارات الثلاث ؛ إما الإسلام، فيكون الذي أسلم أخاً له ما لنا وعليه ما علينا ، وإما الجزية فهي مدخل لقبول المحارب بحرية اختيار الناس لدينهم وعقيدتهم، وإما الحرب، وهي حرب للمستبد، الذي لا يريد أن يفسح لشعبه حرية الاختيار .. إنها حرب تحرير للإنسان ،المكبل بقيود السلطة المستبدة، وعلى مثل هذا جرى التطبيق في أماكن متباعدة ، ففي سمرقند عندما احتل المسلمون المدينة دون أن يُعرض على أهلها الخيارات الثلاث ، اشتكى كهان سمرقند الأمر إلى الخليفة (عمر بن عبد العزيز) ، فأرسل إلى قائد المسلمين بأن يخرج بجيشه من المدينة ، ثم يعرض على الناس الخيارات المعروفة . فلما فعل القائد ما أمره به الخليفة، كان ذلك حافزاً كبيراً لإسلام الناس في سمرقند ، وعودة جيش المسلمين بلا قتال هذه المرة . وكذلك حدث شبيهه في فتح حمص وفي غيرها ، ومن قبل قال عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ في خطبة له: (لا خير فيكم إن لم تقولوها "الرأي والكلمة" ، ولا خير فينا إن لم نسمعها) . وعندما قال له أحد المسلمين : لا سمع ولا طاعة حتى تبين لنا من أين أتيت بالثوب الطويل . قال عمر لابنه عبد الله بين له يا عبد الله . وعندما قال في خطبة أخرى : (وإذا رأيتم فيَّ اعوجاجاً فقوموني) ، قال له أحد المسلمين : والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا ) ، لم يعتقل عمر هذا المسلم . بل قال : الحمد لله الذي جعل في المسلمين من إذا اعوج عمر قومه بحد سيفه.

والتطبيقات بما يخص حقوق الإنسان في تاريخ المسلمين لا يمكن أن تحصرها مقالة صغيرة كهذه ، فهي موج بحر متجدد لا ينتهي ، وانظر إذا شئت إلى سير نور الدين زنكي في رعايته لحقوق المسلمين وتابع بنظرك سيرة تلميذه صلاح الدين مع المسلمين ومع الإفرنج، لتعلم أبداً أنك أيها الإنسان مع الإسلام في نور آية ربنا : ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...)) الإسراء / 70 فهو السابق أبداً.