فتاة من الاتحاد السوفيتي

منى محمد العمد

[email protected]

فتاة روسية في مقتبل العمر , جميلة , تقف في السوق تتلفت كأنها تبحث عن شيء ما , حتى وقعت عيناها على شاب عربي جاء إلى بلادها يطلب العلم, ابتسمت ابتسامة من يعثر على ضالته , أما هو فقد وقعت نظرتها إليه وقع سهم كاد أن يصيبه في مقتل , فأخذ يتبعها بنظراته , اطمأنت الفتاة إلى أنها نجحت في مهمتها , ومشت في طريقها, فقام يمشي في إثرها لا يلوي على شيء , وكانت بين الفينة و الفينة تلتفت إليه كأنما تتأكد إلى أنه لا يزال خلفها , ثم تبتسم مطمئنة , أثار تصرفها استغرابه الشديد فالفتاة تنظر إليه وعيناها تقطران براءة , لا , لا يمكن أن تكون من فتيات الهوى اللاتي يسمع عنهن من بعض قرناء السوء , لكنها تبتسم في وجهه !! قرر أن يتبعها وليكن ما يكون , حتى وصلت إلى منزلها , و دخلت فما كان منه إلا أن دخل المنزل وراءها , فإذا بامرأة كهلة تقف في طريقه , و تخاطبه بلسان عربي مبين قائلة : أهكذا يفعل أحفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! يلاحقون بنات الناس إلى بيوتهن ؟! أسقط في يد الشاب فهذه مفاجأة لم تخطر له على بال , توقع أي شيء لكنه لم يتوقعها ولم يكن المسكين يدري أن ما خفي عليه كان أعظم مما بدا له , تلفت حائرا في أنحاء البيت , لم يجد الفتاة تلعثم وهو يقول : لكنها ...هي ... هي التي ابتسمت في وجهي ... هي ... كانت تدعوني , ثم قال مستدركا خجلا : أو ربما هكذا خيل إلي , أنا ...أنا آسف , سامحيني يا سيدتي , قالت المرأة : نعم , لقد كانت تدعوك فعلا , ازداد الشاب حيرة بينما تابعت المرأة تقول : أنا أمها و قد طلبت منها أن تستخدم كيد الأنثى في استدراج طالب عربي إلى منزلنا لنسأله هل معه نسخة من المصحف الشريف ؟! جلس الشاب على الأريكة القريبة و هو يحاول إدراك ما تقوله هذه المرأة استطردت تقول : ألا تعلمون في بلادكم أننا محرومون من المصاحف فكل من يعثر معه على صفحة واحدة من المصحف يعدم دون محاكمة ؟؟ أما أنتم فتعتبرون هنا سياح و يحق لكم ما لا يحق لنا و لم نكن نستطيع أن نطلب منك المصحف في غير منزلنا مخافة العيون حولنا و الآذان , عاد الشاب يكرر اعتذاره ويعد صاحبة المنزل أن يأتيها بالمصحف الذي أهدته له والدته وهي تودعه قبيل سفره , كم شعر يومها بضآلته أمام هؤلاء العمالقة , وكم شعر بالخزي من نفسه , فهو حتى لم يفتح المصحف الذي أهدي إليه بل تركه مع سقط المتاع بينما يتحرق هؤلاء الناس لرؤية هذا الكتاب العظيم فيبذلون الغالي النفيس في سبيل ذلك . إنه درس لا ينسى .

هذه قصة رواها الشاب العربي كما حدثت معه تذكرتها و أنا أتصفح أمس موقع الندوة العالمية للشباب الإسلامي على الشبكة العنكبوتية , فهناك قرأت خبر توزيع ألف نسخة من القرآن الكريم مترجمة معانيه إلى اللغة الروسية كمرحلة أولى من المشروع وأن الندوة بصدد توزيع ثلاثة آلاف نسخة في المراحل المقبلة , وأشار الخبر إلى الفترة التي قضاها إخواننا المسلمون هناك ـ والتي بلغت سبعين عاما تحت نير الحكم الشيوعي الذي كان يعتبر وجود ورقة من القرآن الكريم مع أحد جرما كافيا لمعاقبته بالإعدام .

كما تذكرت أني رأيت قبل فترة ليست طويلة برنامجا وثائقيا على إحدى القنوات الفضائية يبين كيف حافظت الشعوب الإسلامية في الولايات التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي قبل أن ينفرط عقده , على هويتها ودينها ولغتها بالرغم من القوانين الظالمة التي حكمتهم بالحديد والنار , وكيف أنهم كانوا يتخذون الأقبية تحت بيوتهم فيصلون فيها ويعلمون أولادهم الصلاة والقرآن الكريم واللغة العربية وقواعدها , كل ذلك خوفا من أعين الرقباء .

إنها السنن , قال تعالى : {{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }}

وقال الشاعر أبو القاسم الشابي في قصيدته الشهيرة

إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد  لليل  أن  ينجلي  ولا  بد  للقيد  أن  ينكسر