نحو قراءة جديدة للتاريخ
نحو قراءة جديدة للتاريخ
فاطمة عبد المقصود
استرعت انتباهى لسعة معلوماتها التاريخية ووعيها لما يحدث حولها من أحداث رغم حداثة سنها فسألتها فى احدى المرات عن الهدف الذى تسعى له فأجابتنى بسرعة وبلا تردد : دكتورة فى التاريخ ، ابتسمتُ ابتسامة واسعة لأن القليل منا من يدرك قيمة التاريخ وأهمية دراسته، إنهم أرباب العقول، هكذا وصفهم القرآن عندما حثنا على معرفة خبر من سبقونا من الأمم وتدبر أحوالهم وتأمل المعانى التى خلفوها وراءهم.
قراءة خاطئة:
قد يفهم البعض من قراءة التاريخ بعض العبر والمعانى ، ولكن الذى لا يفهمه الكثيرون هو قراءة الحدث نفسه، كيف نقرأ الحدث وكيف نفهم حكمة حدوثه بهذا الشكل حتى يترسخ فى الأذهان بعد قراءة تلك الأحداث السنن الربانية أو الحكم التى أرادها الله ووضعها فى ذلك الحدث أو ذاك ، إن فهمنا لتلك السنن ومراعاتنا لها فى حاضرنا هو الذى يحافظ على بقاء أمتنا واقفة فى وجه الصراعات والأزمات ، بل وهو الكفيل بقدوم غد مشرق ومستقبل متوازن يحفظ الأمة من تقلبات الأيام ، من أمثلة ذلك الفهم، فهم أن هجرة المسلمين الأوائل الى الحبشة لم تكن هربا من التعذيب فحسب، وإنما لكسب أرض جديدة تدخل فى دين الله إلى غير ذلك مما يمكن أن نستنبطه.
التاريخ رسالة:
لقد فقه الغرب المعادى للإسلام الدور الأساسى للتاريخ فقرأوه قراءة صحيحة واستخلصوا منه المبادىء التى تسّيرهم وتضمن لهم البقاء والقوة ، وفى نفس الوقت عملوا على سلخنا عن تاريخنا فصار التلاميذ والطلاب فى المدارس يدرسون تاريخا مشوها فلا يعرفون عن المسلمين إلا أنهم كانوا عربا متخلفين جاء الإسلام فقط ليهدم وثنيتهم وليصرفهم عن سوء الأخلاق ومنكرات الأفعال فلا يدرك شبابنا بعد ذلك ماذا أراد الله لهذه البشرية من خير وما لهذا الدين من دور ورسالة، ولأن بعض المؤرخين يحصرون رسالة الإسلام فى العرب ينسبون قادة الفتح الإسلامى إلى العرب ويتجاهلون أن صلاح الدين كان كرديا وطارق بن زياد كان بربريا وأن الإسلام هو الذى وحد هذه الطوائف المشتتة وجمعها فصارت نسيجا واحدا متلاحما وأن النصر لم يكن حليف هذه الطوائف إلا عندما نسيت قوميتها والتقت على هوية واحدة وكلمة واحدة مدوية عند لقاء العدو هى الله أكبر.
يقول الدكتور على الصلابى، أحد المهتمين بدراسة التاريخ: إن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الأرض نتيجة منطقية لقوم نسوا رسالتهم وحطوا من شأنها ، وأهملوا السنن الربانية وظنوا أن التمكين قد يكون بالأمانى والأحلام ، إن هذا الضعف الذى أصاب المسلمين بسبب الفجوة الكبيرة التى حدثت بين الأمة والقرآن والهدى النبوى وعصر الخلفاء الراشدين والنقاط المضيئة فى تاريخنا المجيد.
تجاهل الصفحات السود:
ليس هذا فحسب هو ما أصاب تاريخنا من تشوه، بل إن مصابنا الأكبر هو من يسىء إلى حاضر الأمة ومستقبلها وهو غافل يحسب أنه يحسن صنعا، إن ما ندعو اليه من أجل قراءة جديدة هو تجاهل الصفحات السود فى تاريخنا العظيم، فبدل أن نفرد الصفحات الطوال لممارسات ومآسى فرقت ومزقت وجلبت الهزيمة والعار، نفردها لملحمة جمعت ووحدت، نفردها لحديث الوحدة والإجماع على كلمة سواء، لن نلغى تلك الأحداث القاتمة أو نهيل عليها التراب تماما فلها من جوانب الاستفادة ما لا ينكر، ولكن لا نريد أن تكون هى شغلنا وقضيتنا الأولى فى وقت تحتاج فيه الأمة إلى من يرفعها ويذكرها بمآثرها علها تفيق وترتقى.
دورى أنا:
من المقاصد أيضا من وراء قراءة التاريخ قراءة جديدة هو فهم الأدوار واستشعار كل فرد أهمية دوره فى صنع هذا التاريخ، إن فردا واحدا لم يؤدى دوره قد يؤدى إلى هلاك أمة فإذا فهم القارئ ذلك بحث بين سطور تاريخ أمته عن الدور الذى يجب أن يبذله هو ولسان حاله وهو يقرأ: ما دورى أنا؟ وما الذى يمكن أن أفعله لتفادى تلك الهزيمة أو لكسب هذه المعركة، ولا يظنن أحد أن الهزيمة والنصر دور الكبار أو القادة، إنما هى خطوات وأدوار تتابع وتتكاتف ليكمل بعضها بعضا.
التاريخ يعيد نفسه:
نسمع هذه المقولة كثيرا، وحقيقة الأمر أن التاريخ والواقع أحداث تتشابه ومواقف تتكرر، ولكن الأدوار والأشخاص هم الذين يتغيرون، إن قصة ضياع الإسلام فى الأندلس شبيهة بقصص أخرى عايشها الواقع المعاصر وإن اختلفت الجزيئات أو التفاصيل لكن الخطط واحدة والهدف مشترك والنتيجة واحدة، وكما يقول د. جمال عبد الهادى فى معرض حديثه عن بيت المقدس أن من يدرس قصة استعادة صلاح الدين لبيت المقدس يسهل عليه معرفة الأسباب المعينة على تحرير المسجد الأقصى من أيدى يهود.
عزة المسلم:
من يتأمل التاريخ ويعيش بين فصوله يستشعر العزة والفخر لأنه ابن هذا الدين وينتمى إلى تلك الحضارة وذلك التاريخ المشرف، إن الاحباط واليأس الذى قد يصيب المسلم كثيرا فى أيامنا تلك نابع من عدم ثقته بنفسه وبأمته وعدم يقينه وقناعته بأن أجداده ملكوا العالم يوما ما وسادوا الدنيا قرونا من الزمان، لم يكن عن تسلط وقهر بل بالعلم والأخلاق والحضارة والمجد، كانوا أعزة بإيمانهم وأقوياء بعزتهم ونصرهم للمولى، إذا استشعر قارئ التاريخ تلك العزة فإن قواه ستنشط ليصل ماضيه بحاضره ، وسترتفع طاقته ويسعى ليطلب مجد أمته الغائب.
مراجعة العقل:
ولقارئ التاريخ دور فى استجلاء غموض بعض الأحداث الهامة و طلب الحقيقة واستنطاقها من فم الأشخاص الذين لعبوا أدوارا تاريخية من خلال مراجعة العقل التى تعد أمرا هاما وضروريا مع بعض التفسيرات والتعليقات التى قد يضعها المؤرخ تحيزا وتعصبا لمنصب أو لفكرة، علينا إذن أن نراجع العقل والقلب أيضا فى قضية مثل الخلاف بين على ومعاوية وأن نحكم الضمير مع شخصية مثل السلطان عبد الحميد الثانى وأن تكون أحكامنا على قدر الموقف لا أحكاما عامة ترفع الأشخاص إلى السماء أو تهوى بهم إلى سافلين.
المقدمات والنتائج:
من معانى القراءة الجديدة دراسة النتائج لنصل إلى صحة المقدمات من عدمها وفى هذا نذكر قول الشيخ الغزالى فى أحد كتبه تعليق على ما حل بالأمة من نكبات زمن الخلافة العباسية أن المسلمين لم يهتموا بنشر الدعوة وإيصالها للأماكن المفتوحة، ولم يفكروا أن يكون لهم ديوان خاص بنشر دعوة الإسلام، بل كان غاية فعلهم الفتوح الإسلامية لذا كانت كثرة الانقلابات والثورات والتمرد داخل تلك البلدان المفتوحة.
التاريخ والأمل :
نختم تلك المعانى بكلمات للدكتور راغب السرجانى عن استمداد الأمل من قراءة التاريخ :
اذا اقتربت النفوس من الإحباط لحرج الموقف الذى يمر به إخواننا فى فلسطين ، فلابد لنا من استرجاع مواقف من تاريخ أمتنا كانت أشد ضيقا، وكان الحصار على المؤمنين أكثر احكاما ، والاحتلال أثبت أركانا ..ومع ذلك خرج المؤمنون من أزماتهم خروج المنتصر العزيز بربه، الواثق فى السيادة والغلبة على عدوه .
هذه بعض الملامح التى يمكن أن تعيننا على قراءة التاريخ قراءة نستفيد منها ولا نشعر معها بصعوبة التاريخ أو توقف دوره فى حياتنا. وقد نتفق أو نختلف مع تلك الرؤية لكن فلنتفق على أهمية التاريخ وما يحمل من كنوز وخبرات تعيينا ولاشك فى مواجهة ما يلاحقنا من أحداث وتحديات.