كلمات في القرآن
( 6)
( أ ُمّة )
د.عثمان قدري مكانسي
قال ابن مظور – رحمه الله – في معجمه لسان العرب : أمّ : مِن أمَمَ . وأم : قـَصَد . أمـَّه يؤُمّه أمّاً ، إذا قصده وتوخـّاه.
ولن نتناول مشتقات هذه اتلكلمة ، وهي كثيرة ، فمن رغب بذلك أمّ كتب معاجم اللغة وتزوّد . إنما نريد معانيها التي وردَتْ في القرآن الكريم . ولعلنا نحاول الأحاطة – على ضعفنا – بالكثير من المعاني اللطيفة الرائعة :
1- تأتي بمعنى السلف الماضين من الآباء الصالحين كالأنبياء ، وذلك في قوله تعالى في الآية 134 من سورة البقرة " تلك أمة قد خلت ، لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم ، ولا تُسألون عما كانوا يعملون " لا ينفعنا انتسابنا إليهم ما لم نعمل بعملهم الصالح ، فـ " كل امرئ بما كسب رهين " ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه .
2- وتأتي بمعنى الشريعة الواحدة والدين الواحد ، مثال ذلك في الآية 213 من سورة البقرة " كان الناس أمة واحدة ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ... " قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وكانوا على هدى الله جميعاً فلما طال عليهم الزمن اتبعوا أهواءهم وأضلتهم الشياطين . فأنزل الله جبريل على الأنبياء بكتبهم ليهدوا الناس إلى طريق الحق والسلام .
3- وتأتي بمعنى العلماء والدعاة والمصلحين ، مثال ذلك اللآية 104 من سورة آل عمران " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون " وهؤلاء أتباع القرآن والسنة النبوية التي تتصدى لإقامة المعوج وإصلاح الخلل في البشرية ، وقد قَالَ فيهم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان " وَفِي رِوَايَة " وَلَيْسَ وَرَاء ذَلِكَ مِنْ الإيمان حَبَّة خَرْدَل " . هذه هي الأمة الداعية إلى إسعاد البشرية والنهوض بها في درب الهناء والأمان . وفي قوله تعالى في الآية 181 من سورة الأعراف " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " يقول صلى الله عليه وسلم مدحاً لعلماء أمته ودعاتها العاملين بما يرضي الله تعالى يوم يضعف الناس ويتخاذلون ، ويستكينون لعدوهم ويتراجعون " إِنَّ مِنْ أُمَّتِي قَومًا عَلَى الْحقّ حَتَّى يَنزِل عِيسَى اِبن مريم مَتَى مَا نَزَلَ " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعاوية بْن أَبِي سُفيَان قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا تَزَال طَائِفَة مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ لا يَضُرّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ولا مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى تَقوم السَّاعَة " وَفِي رِوَايَة " حَتَّى يأتي أمر اللَّه وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ " وَفِي روايةٍ " وَهُمْ بِالشَّام " .
4- وتأتي بمعنى ذي طريقة حسنة وهدىً مستقيم ، مثل ذلك الآية الكريمة 113 من سورة آل عمران " ليسوا سواءً ، من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " والتقدير: مِنْ أَهل الْكِتَاب أُمَّة قَائمة وَأُخرى غَير قَائمة , فَتَرَكَ الأخرى اكتفاء بالأولى والمعنى : لا يَستوِي أُمَّة من أَهل الْكِتَاب قَائمَة يتلون آيَات اللَّه وَأُمَّة كَافرَة. قال ابن عَبَّاس : لما أسلم عبد الله بن سلام , وثعلبة بن سعية وغيرهما من يهود ; فَآمَنُوا وصدّقوا وَرَغِبُوا فِي الإسلام وَرَسَخُوا فِيهِ , قَالَتْ أَحبار يَهُود وأهل الكفر منهم : مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ ولا تبعه إلا شرارُنا , وَلَوْ كَانُوا مِنْ خِيَارنَا ما تركوا دين آبائهم ، وذهبوا إلى غيره ، فنزلت هذه الآية تكذبهم وتمدح من أسلم والتزم عبادة ربه وقـنت له .
5- وتأتي بمعنى القـِسم من الشيء لا يبلغ الشطر بل هم قليل قالوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ما يليق بهما ، فقصدوا القول الحق ولم يتعدّوه . مثال ذلك الآية 66 من سورة المائدة في قوله تعالى " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، منهم أمة مقتصدة ، وكثير منهم ساء ما يعملون " وأراد بالقصد الاعتدالَ والحقيقة أناساً من أهل الكتاب آمنوا واتقـَوا كالنجاشي وسلمان وابن سلام وغيرهم ، فكان تقواهم لله سبباً في توسيع الله تعالى عليهم الرزق والخيرات ألم يقل الله تعالى في سورة الجن يؤكد الرزق الوافر لمن آمن به وعمل بمقتضى الإيمان ؟ " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً " وقال كذلك في سورة الطلاق " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ، ويرزقه من حيث لا يحتسب " ؟ ثم وعد – في سورة إبراهيم - بالمزيد لمن اتقى وشكر ربه " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنـّكم " .وكذلك نجد الثلث أو القسم الثالث الذي على الصواب من قصة اليهود في يوم السبت في قوله تعالى في الآية 164 من سورة الأعراف " وإذ قالت أمة منهم لِمَ تعظون قوماً اللهُ مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ؟ قالوا معذرة إلى ربهم ولعلهم يتقون " فهؤلاء هم الصالحون الذين نبهوا وحذّروا ، ثم لم يخالطوا المفسدين وتميّزوا عنهم ، بينما كانت فئة ثانية نبّهت وحذّرت إلا أن ذلك لم يمنعها أن تخالط المفسدين وتؤاكلهم وتسامرهم . هؤلاء الصالحون لم يتوانَوا عن إسداء النصح والتذكير بالله حتى اللحظة الأخيرة علّ المخطئ يرعوي ويتقي الله ، ويقلع عن المعصية قبل حلول العذاب ، فينجو . وما يفعل ذلك إلا العطوف من المسلمين المحب للناس جميعاً ، الذي يأمل بالناس أن يتوبوا ويثوبوا ، ويرجعوا عن غيهم ، والمؤمن لا ييئس ويظل داعية يصدق في دعوته ، ويسعى لها بما أوتي وما استطاع.
6- وتأتي بمعنى : قرن وجيل . كما في قوله تعالى في الآية 34 من سورة الأعراف " ولكل أمة أجل ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " وسيأتيهم ميقاتهم المقدّر . وقد وضح القرطبي سبب النزول فقال : إن الكفار كَانُوا " إِذَا فَعلوا فَاحشَة قالوا وجدنا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاَللَّه أَمَرَنَا بِهَا " , وَوَعيدًا منه لَهُمْ عَلَى كَذِبهمْ عَلَيهِ وَعَلَى إِصرارهمْ عَلَى الشِّرك بِهِ وَالمُقام عَلَى كُفرهمْ , ومذكراً لَهم مَا أَحَلَّ بأمثالهم من الأمم الَّذِينَ كَانُوا قَبلهم : لكل جَمَاعَة اِجْتَمَعَتْ عَلَى تكذيب رُسُل اللَّه وَرَدّ نَصَائِحهمْ , والشرك بالله مَعَ مُتَابَعَة رَبّهمْ حُجَجه عليهم وَقْتُ لحلول العقوبات بساحتهم , ونزول المثُلات بهم على شركهم . ولن يؤخرهم ربهم عما قدّر لهم من عقوبات في الأجل الذي حتـّمه لهم .
7- وتأتي الأمة بمعنى الشبيه والمثيل في الصفات والعاقبة كقوله تعالى في الآية 38 من سورة الأعراف " قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ الإنس فِي النَّارِ ، كلما دَخَلَتْ أمة لعنتْ أختَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخرَاهُمْ لأولاهم : رَبَّنَا ههؤلاء أَضَلُّونَا فآتهم عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعلَمُونَ " فالله تعالى يَقول لهؤلاء الْمُشْرِكِينَ بِهِ الْمُفتَرِينَ عَلَيْهِ المكذبين بِآيَاتِهِ " اُدْخُلُوا فِي أُمَم " مِنْ أمثالكم وَعَلَى صفاتكم " قد خلتْ من قبلكم " مِنْ الأمم السالفة الْكَافِرَة " من الجن والإنس في النار " إنهم يلتقون مغضبين سابين شاتمين من كان سبب دخولهم في النار واجتماعهم فيها " كلما دخلت أمة لعنت أختَها " وقد قال الله تعالى على لسان خليله إبراهيم عليه السلام " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ، ويلعن بعضكم بعضاً " ويتبرأ بعضهم من بعض " إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اِتَّبَعُوا" " فإذا التقى هؤلاء في النار جميعاً واجتمع بعضهم إلى بعض شكا الآخرون الأولين إلى الله لأنهم كانوا سبب ضلالهم فيقولون " رَبّنَا هؤلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّار " فيجيبهم بأنه جازاهم جميعاً بما يستحقون من عذاب شديد " قَال َلكل ضِعْف " نسأل الله العافية وحسن الختام .
8- وتأتي " أمة " بمعنى الأجل المعدود والأمد المحصور والمدة المضروبة . مثال ذلك قوله تعالى في الآية الثامنة من سورة هود " ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولُنّ : ما يحبسه ؟ " فالكفار يستعجلون العذاب " وإذ قالوا : اللهم ؛ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " وفي قوله تعالى يسخر من الكفار : " يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " كما أننا نجد معنى الزمن في كلمة " أمة " في قوله تعالى في الآية 45 من سورة يوسف : " وادّكر بعد أمة " وما تذكر إلا بعد سبع سنوات قضاها يوسف في السجن .
9- وتأتي بمعنى الإمام الذي يُقتدى به . مثاله قوله تعالى يمدح إبراهيم عليه السلام " إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله ، حنيفاً ، ولم يك من المشركين " فَهُوَ الإمام الَّذِي يُقتدى بِهِ وَالْقَانِت هُوَ الْخَاشِع الْمُطِيع وَالْحَنِيف المتجه قَصْدًا عَنْ الشِّرْك إِلَى التوحيد ، وهو معلم الخير والجامع له ، الذي يعلم الناس دينهم ويدلهم على ربهم . وقد كان إبراهيم وحده مؤمناً والناس كلهم كفار ، فكان أمة وحده .
10-وتأتي " أمة " بمعنى جماعة من الجماعات ،
أ- وقد تكون الجماعة صغيرة قليلة، فهذا موسى عليه السلام يصل إلى مدين فيمر على جماعة من الرعاة قد لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين يسقون أنعامهم وشاءَهم " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون " ....
ب- وقد تكون الأمة ضخمة كثيرة العدد تعيش الحواضر والبوادي . يُرسل إليها الرسول ليهديهم طريق الرشاد ، ونجد ذلك في قوله تعالى : و" َلَقَد بعثنا فِي كُلّ أُمَّة رَسُولا أَن اُعْبُدُوا اللَّه واجتنبوا الطَّاغُوت " وَقَالَ تَعَالَى " وَلِكُلِّ أُمَّة رَسُول فَإِذَا جَاءَ رَسُولهمْ قُضِيَ بَيْنهم بِالْقِسْطِ وَهُم لا يُظلَمُونَ " فالرسول يبعث في جماعة أو جماعات ويدعوهم إلى الله تعالى ، ويقيم عليهم الحجة كما قال تعالى في الآية 75 من سورة القصص " ونزعنا من كل أمة شهيداً " نبياً يشهد على العباد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وشهيد كل أمة رسولها " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً "
جـ -وقد تكون الأمة بمعنى الناس جميعاً لقوله صلى الله عليه وسلم " وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسْمَع بِي أَحَد مِنْ هَذِهِ الأمة يَهُودِيّ وَلا نَصْرَانِيّ ثُمَّ لا يُؤْمِن بِي إلا دَخَلَ النَّار" وكقوله تعالى " كنتم خير أمة أخرجت للناس " بمعنى خير الأمم .
11-وقد تأتي بمعنى الدين والملة لفوله تعالى في الآية 23 من سورة الزخرف " إنا وجدنا آباءنا على أمة " أي على طريقة ودين ، وهم يريدون أن لا يخالفوهم
12-وقد تأتي كلمة أمة بمعنى التساوي والتشابه في الحياة والعطاء . مثاله قوله تعالى في الاية 33 من سورة الزخرف " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سُقفاً من فضة ومعرج عليها يظهرون .. " خوفاً على المؤمنين من الفساد والفتنة حين يرون الكفار يعيشون في الدنيا حياة الرفاهية والرغد ، وهم – على الرغم من إيمانهم – أقل منهم مستوى في الراحة والهناء والرفاهية لأعطى الكفار في هذه الدنيا الكثير من المتع العظيمة ، فهم على كفرهم وسوئهم وضلالهم - كونهم بشراً - فهم يفعلون مع بعضهم الخير ويساعد بعضهم بعضاً فلا بد للعدل الإلهي أن يثيبهم بما فعلوه من خير في دنياهم فقط ، فليس لهم في الآخرة نصيب . ...