بصمات البشر

حارثة مجاهد ديرانية

[email protected]

يحب معظم الناس أن يعطوا جل تفكيرهم للمستقبل القصير، ويتركون التفكير في المستقبل البعيد، وينشأ عن ذلك ما نراه من ظاهرة عجيبة هي أن الناس يؤمنون بآخرة هي الحياة الحقيقية الباقية ثم لا يعملون لها، بل وأقول إنهم[1] لا يكترثون كثيراً بإفسادها أيضاً! ومن أجل السبب نفسه نسمع أنا وأنت بعض الناس يحدثوننا عن فلسفة "الاستمتاع بالحياة القصيرة" وكأنهم ينسون -أو لعلهم في الحقيقة يتناسون- أنهم وإن كانت حيواتهم قصيرة حقاً، سيتركون وراءهم آثاراً لن تزول في معظم الأحيان قبل أن يمضي مثل أعمارهم التي عاشوها أضعافاً مضاعفة. نعم والله، فإن البشر لا يرحلون عن هذه الدنيا إلا ويتركون وراءهم بصمات تبقى من بعدهم. فجاري الذي يسكن أمامي من آثار أبيه، فإن صلح كان امتداداً صالحاً لأبيه وإن فسد كان أذى تركه لنا بعد رحيله،  والعمارة التي أسكنها قد تبقى في مكانها بعد أن يموت كل من عمل في بنائها فيكون منها بصمات من أعمال أيديهم وأذهانهم، وسيكون كل حجر وضع في مكانه في إتقان شاهداً لصاحبه على إتقانه، وما عدم الإتقان منها شاكياً على من أهمل واجبه من البنائين، ذلك أن من الناس من يترك آثاراً نافعة ومن يترك الضار الخبيث، وأن منهم من لا يكاد يترك من ورائه شيئاً، فهو امرؤ كان وجوده على ظهر هذه الأرض كما لو عدمه تقريباً! وبعض الناس تركوا وراءهم بصمات من نوع طريف، كبعض المعلبات الفارغة التي تستقر الآن في قاع المحيط، رماها في سالف الزمان -بعد أن أتى على ما فيها من طعام- جورج أو زيد أو يونغ يانغ، ثم مات وترك للمحيط خردته لكي يذكره بها بعد مماته وتقف العلبة شاهدة على نظافته وحبه للطبيعة. ولما نظرت إلى الدنيا أدركت أن هذا العالم هو عالم له ذاكرة من نوع ما، فصحيح أن الناس قد نسوا اسم ذلك الشخص اللطيف الذي رمى بالعلبة الفارغة إلى أرض المحيط، غير أن العلبة تلبث الآن هنالك بالفعل! ولكننا لا نفتح أعيننا جيداً لكي نرى هذه الحقيقة. إن هذا العالم يحتفظ بطريقة غريبة بنتائج أقوالنا وأفعالنا ويخزنها في ذاكرته بأسلوبه الخاص، ولعل ذاكرة العالم أن تنسى في أحيان كثيرة، ولكن نسيانها قد يبلغ من البطء حداً كافياً لجعلنا ندفع أثماناً غالية، كمعاناة اليابانيين من آثار القنبلتين اللتين ألقيتا على اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية، إحدى أمثلة العار التي سجلها التاريخ على أعتى دول الظلم العدوان في العصر الحديث. إن تعافي الأرض مما حل بها من خراب أبطأ بكثير من أن يبهج نفوسنا نحن البشر قصار الأعمار. فهذا مثال لما سجلته ذاكرة العالم، وهو مثال لبصمة قذرة قد بلغت الغاية في قذارتها وشرها.

وهكذا نظرت فرأيت أن هذه البصمات تختلف اختلافاً عظيماً بين أن تكون خيرة أو شريرة أو بينهما على حياد، وبين أن تكون بصمة ضخمة ضخمة لا تعمى عنها الأعين الكليلة وبين أن تكون دقيقة لا ترى ولا تكاد يحس بها، وبين أن تكون هذي البصمات بصمات مادية محسوسة كأهرام الفراعنة ومدينة بغداد التي تركها لنا المنصور فكتب لها الخلود، وبين أن تكون بصمات غير محسوسة كالتي تراها في نفوس البشر ومناهجهم التي يسيرون عليها، وربما تكون هذي الأخيرة أعظم خطراً وأعلى شأناً من أي مرئي محسوس، وهل المجددون الدينيون إلا من هذه الفئة الأخيرة، ولولاهم لكنا الآن بلغنا القاع في انحطاطنا إلى ظلمات التيه والضلال؟ ونظرت إلى هذه البصمات فرأيت أنها تختلف كذلك اتساعاً وعمقاً، فمنها ما بلغ الغاية في امتداده واتساعه، ولكنه كان ضحلاً فسرعان ما ذهب وكان مثله كغثاء السيل، ومن البصمات ما كان اتساعه أقل بكثير ولكنه كان عميق الأثر وكان صالحاً وحقاً فبقي ولم تمحه الأيام وإن كان ضيقاً في أثره. فكان كمثل الأول الماركسية وغيرها من الدعوات الباطلة التي هزت العالم في حينها ثم اختفت في سرعة وكان مآلها إلى الاضمحلال والموت، ولا يمضي على مثل ذلك الهراء وقت طويل حتى تكون كل بصمته حفنة من الجمل في كتب التاريخ! وأما الثاني فمنه المربون الذين يموتون ولا يسمع بهم أحد إلا قليلاً من الناس، ولكنهم يتركون وراءهم خلفاً قد تغيرت نفوسهم تغييراً بما غرس فيها من حب الحق والجهر به، وبما وضع في قلوبهم من القوة التي يحاربون بها الباطل، فكانت بصمة أولئك حراساً يحرسون الدين والفضيلة.

ولقد أدرك مسألة البصمات هذه العظماء من الرجال، فلم يرضوا أن يكون وجودهم على هذه الأرض وجوداً لا معنى له ولا قيمة، وكانت حافزاً لهم على أن يتركوا وراءهم أعظم البصمات وأكثرها خلوداً، ولم يسمعوا إلى ذلك الهراء الذي يدعو إلى التفكير في هذه الحياة القصيرة وأن ننسى ما بعدها، ذلك أنها دعوة تخالف فطرة الإنسان، والإنسان بطبعه ينشد الخلود ولا ترضى نفسه الفناء. ولكن المشكلة التي أرقت العالم هي أن كثيراً ممن أراد خلود اسمه كان ذا قلب فقير إلى الخير وأخلاق ضعيفة متهتكة ونفس أنانية مريضة، فكان حرصه على تركه بصمته وبالاً على الناس ونازلة من النوازل. أولئك ناس نفضل -بكل تأكيد- ألا يستيقظ حرصهم على تخليد بصماتهم ما دامت هذه البصمات بصمات دمار وتخريب، ويَفضُل هؤلاء الناسُ البسطاءُ الذين لا يكادون يتركون وراءهم شيئاً فلا هم تركوا خيراً ولا هم تركوا شراً، ثم يبذ أولئك جميعاً الذين يحرصون على أن يتركوا وراءهم آثاراً صالحة طيبة.

كل واحد فينا -نحن البشر- غير مجيئه إلى هذا العالم وعيشه فيه شيئاً، إننا كلنا أدوات تسهم في توجيه قدر هذا العالم، وكل جيل منا يعمل عمله في نقل خبراته ومعتقداته وإيمانه وفلسفاته الأخلاقية إلى الأجيال اللاحقة، وترك وجوده آثاراً مادية وغير مادية في هذه الدنيا، في بيئتها وبرها وبحرها وعمرانها وأنظمتها وناسها. فلتذكر إذن -يا سيدي العزيز- أننا أعظم أثراً مما نتصور أحياناً، وأن كل عمل نعمله سيسجله العالم في ذاكرته لا محالة، وأننا لا بد أن نترك وراءنا بصماتنا بعد أن نموت (وكلنا سنموت)، واذكر أنك تصنع حسناً بمجرد أن تكون امرئاً كان وجوده على هذه الأرض أحسن من عدمه، وكانت بصماته بصمات خير ولم تكن بصمات شر وأذى.

              

[1] أي كثير منهم.