كثير الغلبة
عبد الفتاح فتوحي
اعتاد كثير الغلبة أن يناقش صاحبه حول بعض القضايا الكبيرة منها والصغيرة، وهذه المرة كان النقاش حول بعض الأمور المستحدثة في هيئة الصلاة، ويتساءل هل طرأ فهم جديد على النصوص الواردة في الموضوع لم تكن تُفهم على أساسه من قبل، مع أن العلماء السابقين أقرب لفهم منطوق النص وأعرف بمراد اللغة العربية التي جاء بها، وأن هيئة الصلاة ليست من الأمور القابلة للتأثر بتغير الزمان والمكان؛ فهي ثابتة بصحة النقل والرواية وتلقي الخَلَف عن السَّلَف لها بالقبول.
ولَقَب (كثير الغَلَبة) أطلقه صاحبه عليه لكثرة تساؤله واعتراضه على بعض ما يرى أنه خلاف الأولى، بينما نرى المتهَم يحتج على صاحبه لإطلاقه هذا اللقب عليه ويدفع بأنه "مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"
قال لصاحبه- مرّة - وهما خارجان من المسجد بعد أداء إحدى الفرائض جماعة: أرأيت إلى صفوف المصلين خلف الإمام! كيف تتخللها الفراغات المتشكلة! بسبب تفريج بعض المصلين أرجلهم زيادة عن المطلوب؟ فالمطلوب من المصلِّي التفريج بين قدميه.. ولكن... قاطعه صاحبه؛ أنا لا أتدخل في خلافيات الفقه وخاصة الفروع، ولست أهوى مشاكل قد تؤدي إلى تفريق كلمة المسلمين....
لم يُعجب (كثير الغَلبة) مقاطعة صاحبه واعتبره تهربا من مواجهة الأمور؛ وقال لصاحبه: الحق كله بجانبك، ويجب علينا أن لا نفرِّق هذه الصفوف المتباعدة أكثر من ذلك، وأن لا نزيد التشرذم شَرذمة! ولتلتزم كل (شِرذمة) ما تراه من النصوص صحيحاً أو تطبقه حسب فهمها وهواها.. وما لنا وللحوار البنَّاء بين إخواننا المسلمين..! ولنقصر هذا الحوار على إخواننا في الإنسانية من أصحاب الديانات الأخرى.. السماوي منها والأرضي! ولنترك – وراءنا - ما يجمعنا مما توارثه علماء المسلمين؛ خَلَفهم عن سَلَفهم بالفهم والقبول..!.
كان (كثير الغَلَبة) يتكلم وصاحبه واجم لا ينبس ببنت شفة.. وهو مُشفق على أوداجه أن تنفجر..! وأيقن أنه يأخذ الأمر بجدية كاملة، فحاول أن يُخفف عنه ويُفرغ قليلاً من شحنته التي زادت بسبب رده اللامبالي بدايةَ الحديث؛ بالحوار الهادئ.. فقال: لا شك أن هؤلاء لديهم دليل على ما يفعلونه من السنة المطهرة؛ فأخبرني عما عندك أنت مما يُخطِّئ فعلهم..؟.
حاول (كثير الغلبة) أن يُهدئ نفسه ويصوِّب كلامه؛ وقال لصاحبه: أنا لست فقيها.. ولا أصولياً حتى أناقش الأدلة وأرجِّح بينها.. إنما أنا رجل من طلاب العِلم، أعلم ما هو مطلوب من الدين بالضرورة.. وأحاول التعامل مع مراد النصوص الشرعية والتوفيق بينها.. فالدين وحدة متكاملة؛ وتعاليمه يتوافق بعضها مع بعض، ويفسِّر بعضها بعضاً؛ فالمقيَّد يُحدد المُطلق، والخاص يُخصص العام وكذلك العكس، وهكذا يجب الجمع بين النصوص ليتضح المراد منها.
فما نحن بصدده من تباعد صفوف المصلين نتيجة فهم خاطئ للنصوص وعدم المواءمة فيما وَرد من النصوص الأخرى في ذات الموضوع.. فصحيح أن المصلِّي مُطالب بالتفريج بين قدميه؛ ويتحقق هذا التفريج ابتداءً من عدم إلصاق بعضها ببعض.. وانتهاءً بتباعدهما عن بعض؛ إذ أقصى ما يستطيعه المصلِّي الرياضي صاحب اللياقة البدنية العالية الذي يُجيد الفسخ... والذي يُحدد المسافة المقصودة شرعاً هو النص الآخر الذي يُطالب المصلِّي برص الصفوف وإلصاق الكتف بالكتف، وإن فَهم التفريج بعيداً عن هذا النص الذي يأمر برص الصف وعدم ترك فُرجة للشيطان؛ يُخل به على حساب الزيادة في التفريج، ويكتفي بوضع خنصر قدمه على خنصر قدم جاره (ما يذهب الخشوع ويشغل المصلِّي كثرة التأكيد على أن القدم بالقدم لا يكون إلا بحك القدمين أو أن يكون طرف قدمك على قدم جارك !) بدعوى الحيلولة دون دخول الشيطان.. وهل يهتم الشيطان أن يدخل من بين الأقدام! فقط؟ أم همه ومسعاه أن يدخل عبر القلوب التي هي بين الأكتاف!؟ ثم إن التفريط بتفريج الأقدام أمر غير متعدٍ؛ بينما الإفراط فيه أمر متعدٍ، ، ويحرم الآخرين من تحقيق رص الصفوف كما يفهمونه بالكتف، وإن العبادة التي يتعدَّى فيها أفضل من التي تقتصر على صاحبها....
وما إن توقف (كثير الغلبة) عن متابعة الكلام ليستدر ريقه ويُرطب لسانه؛ حتى هبَّ صاحبه المنصت بنهم واهتمام وقال: الآن عذرتك على موجدتك عليَّ، وإن مَن عنده هذه الحجج ويرى هذا الخَلل فيما يتعلَّق بأجلِّ شعيرة من شعائر المسلمين حق له أن يهتم ويغتم، وإني أرجع عن إطلاقي عليك لقب (كثير الغلبة) إلى لقب كبير الهمة، وصدق القائل:
إذا كانت النفوس كباراً تعبت في نيل مرادها الأبدان