بين رصيف ورصيف

أحلام الحنفي

كثيرة هي المواقف المتناقضة التي تواجهنا في حياتنا، ربما نكون أحيانا حلقة في منظوتها، وربنا نكون شاهداً عليها في أحيان أخرى.

بين رصيف ورصيف.. مشهد رسَمَته أحداث ذلك اليوم، وجُلَّ ما حمل من مفارقات!! في ذلك اليوم خرجتُ متوجهةً نحو مكان وظيفتي، أسير إلى ناصية الطريق لأستقل سيارة أجرة.. كان يوماً ماطراً، لكن المطر كان قد انحسر قبيل خروجي، إلا من قطرات ندية، تنتعش النفس بالسير معها، وربما خرج الناس ساعتئذٍ لإنجاز مصالحهم بعد أن أقعد بعضهم شدة المطر...

الطريق لا يزال مبتلا.. وأنا أتابع المسير، وعلى بعد أمتار قليلة مني، في  الجانب نفسه الذي أسير فيه، امرأة متقدمة في السن على هيئة أقرب إلى البساطة، ترتدي ثوباً يكشف ساقيها الناحلتين في ذلك البرد.. كانت تسير في مواجهتي.. رأيتها وقد انحت أرضاً وأمسكت بيدها شيئاً لم أعرف كنهه، شيئا بدا متكوراً كلفافة ورقية، وهي تمسكه بحرص.. ثم تبدَّى لي أنها ورقة لصحيفة بللتها المياه.. تُرى.. ما الذي تحتويه هذه اللفافة!

انتابني الفضول في داخلي لأعرف ما الذي التقطته تلك المرأة قبل أن ينتابني الفضول لأسأل عن سبب خروجها في ذلك الشتاء البارد.. لحظات عشتها مع نفسي وأنا لا زلت أسير، ويخيل إليَّ أنني توقفت عن السير لحظات، أيعقل ذلك! هل ما ظننه صحيحاً.. ربما.. لطالما.. لا أكاد أصدق.. في ذلك المكان: لطالما رأيت بقايا طعام يضعها البعض لقطط الطريق.. شعرت لحظتها وكأن صاعقة حلت علي.. هل الأمر حقًّا كذلك! أهناك من يسلبُ فتات خبزٍ قد تَعَافه قطط الطريق ليسدَّ جوعاً ألمَّ به، بينما ننعم نحن بألوان المآكل والمشارب؟

مرت تلك اللحظات وكأنها زمن، كانت قدمايا حينها قد توقفتا عن السير فعلاً.. استجمعت عندها أفكاري، ثم حانت مني التفاتة نحو الطريق الذي توجهت إليه تلك المرأة والدهشة تنتابني.. أخذت أرقب المكان.. ثوانٍ مرت، فقط ثوانٍ تلك التي مرت، لكن المرأة كانت حينها قد تلاشت عن ناظرَيّ، وددت لو لحقت بها.. لكنها غادرت، ولم يمنعني ذلك أن أتوقف عن السير بين حين وآخر، والتفتت خلفي علها تمر أمام ناظريَّ مرة أخرى.. لكن ذلك لم يحصل.. ما حصل هو أنه قد دار بيني وبين نفسي حوار عميق... تذكرت منه جملةً صدرت من أعماق نفسي: الحمد لله على ما أنعم به علينا..

نعم هي لحظات حزينة، حين يرى الإنسان أخاه الإنسان يكتسحه الفقر، بينما يرزخ هو في النعيم، ويسعى إلى مكملات لا يضرُّه غيابها، وإن أسمنه وجودها..

لكن ما نراه نحن أبناء الطبقة العادية في أنفسنا من ثراء بالمقارنة مع الفقر المدقع الذي يعيشه هؤلاء.. يقابله، وعلى رصيف آخر _ لا يفصل بينه وبين الرصيف السابق سوى شارعٍ رئيس_  مفارقة من نوع آخر.. كان ذلك في أثناء عودتي من العمل في اليوم نفسه.. مشهد لطالما رأيته، ولا شك أني قد علقت عليه مراراً وتكراراً، ربما لأنه لا يروق لي، ولكن هذه المرة، كانت نظرتي إليه أوسع شمولاً وأكثر عمقاً..

لطالما استقبلَتِ المطاعم والمقاهي في المدينة -ذات الصبغة الخاصة- روادها، هنا: فنجان القهوة يقارب ثمنه ثمن كيلوغرامٍ من حبوب البن المطحونة أي أضعاف ثمنه في أي مقهى آخر، طبعاً ليست بقهوة ذات توليفة خاصة، ولا تحتوي على المعادن والفيتامينات والمكملات الغذائية، إنها ببساطة قهوة.. مجرد فنجان كأي فنجان قهوة، بل ربما ليس بأطيب من أي قهوة تصنعها كفا أم أو أخت أو زوجة حانية.. الذي يختلف فقط؛ هو أنك تجلس في المقهى الفلاني الفاخر..

مهلاً! إنما كان حديثنا عن الرصيف! أجل هنا يتباهى بعض الناس في الجلوس على الأرصفة لتناول مشروباتهم، فليس مهماً أن تمر بهم السيارات المحملة بالدخان والغازات السامة التي باتت أنوفنا لا تحتملها، وليس مهماً أصوات الضجيج وأبواق السيارات في زحمة مغادرة الموظفين لأعمالهم، والطلاب لمدارسهم وجامعاتهم، ليس مهماً أن يمر من هنا بائعٌ متجول أو ماسح أحذية، المهم أنهم يجلسون في ذلك المقهى الفاخر صاحب العلامة المميزة والسمعة الراقية الذي تمتد مقاعده إلى خارج أبواب المحل، في تلك المنطقة المعروفة من المدينة، حتى ولو كان ذلك.. على الرصيف..

بين رصيف ورصيف.. شجون ربما استثارت في نفوسنا الكثير.. وبين مطعم ومقهى مئات الكيلوات من الطعام الفائض يرمى في حاويات المهملات، ومئات الجوعى يترقبون غنيمتهم المغمسة بالمذلة، والملوثة بسموم البَطَر، وغفلة البشر. وبين جامعة ومدرسة.. طلاب يدرسون في أرقى المدارس والجامعات، وفي أكثرها راحة وترفاً، وأغلاها قسطاً وثمناً، ولا بأس أن يرسب البعض في سنتهم الدراسية! فجيوب الأهل ممتلئة بما يفيض عليهم، بدليل جيوب أبنائهم التي تُنفق مئات الدولارات. وآخرون.. ربما يشقى ذووهم ليلاً ونهاراً رغبة في تعليمهم ولو مبادىءَ (فك الحرف)، أو لشراء كتاب أو قرطاس لهم، وربما رأيت الشباب والصبيان يصِلُون الدراسة بالعمل، لكَسبِ علمِ ومحاربة جوع.. وبين مستشفى وعيادة طبيب، رفاهية مرضية.. غرفٌ أشبه بغرف الفنادق، فهذا مريض من فئة الخمس نجوم، وآخر.. ربما أدركه الموت قبل أن تدركه شفقة الأطباء..

وبين هؤلاء وهؤلاء من كان الغنى سبب شقائه، وضياع سنوات عمره في الملاهي والمغريات والسرف والتفاهات، فكان الشيطان له أخاً وخليلا..﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء:27]، وبين من يحمد الله تعالى على نعمة الكفاف.. ونعمة العفاف.. ونعمة الصحة بعد المرض، والارتواء بعد العطش، والشبع بعد الجوع، والدفء بعد البرد.. ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر:34].

فلله درَّ غنيٍّ شكر أنعم الله عليهِ وأداها حقها، ففاز في الدنيا والآخرة  ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى  لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:262]،  ولله در فقير صبر على ضنك العيش وحمد الله على ما رزقه في دنياه، عسى أن يعوضه الله خيراً، ويكون له في الآخرة نصيباً أوفر، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ. وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ. إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [ الزمر:10]. 

ولله درُّ زمان نثرت فيه حبوب القمح فوق التلال لتكون طعاماً للطيور، لما فاضت أموال الزكاة زمن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ولم يبقَ صاحب حاجة يطلب العطاء في أرض الإسلام، بعدما اكتفى الجميع، المسلم منهم وغير المسلم..

فمتى ندرك فضل الله علينا! ومتى نشكره على أنعُمِه التي لا تحصى! ومتى نستشعر بحاجة إخواننا في الإنسانية قبل كل شيء.. أسئلة أثق أنها لا تحتاج منا إلى وقت في التفكير عن إجاباتِها، لأن إجاباتها يجب أن تكون ماثلةً بين يدينا...

اللهم لكَ الحمد على ما أنعمت به علينا، عدد خلقك، ورضا نفسك، وزنة عرشك، ومداد كلماتك..