تاكسي إلى الشعب!

د. أحمد الخميسي. كاتب مصري

[email protected]

في 11 أغسطس 1904 أصدر الشيخ أحمد أبو خطوة قاضي المحكمة الشرعية حكما بتفريق على يوسف صاحب جريدة المؤيد وصفية السادات زوجته، وارتكزت عريضة الدعوى إلي عدم الكفاءة بين الزوجين حيث أن صفية من أسرة محترمة أما على يوسف فيحترف" مهنة الجرائد التى هى أحقر الحرف"! وأكد محامي عائلة السادات في دعواه أن العمل في الصحافة " عار وشنار"! وغضب الشاعر حافظ إبراهيم من الحكم فكتب" ما أنت يامصر دار الأديب.. ولا أنت بالبلد الطيب"! ووصف سلامة موسى حال الصحفي بعد انقضاء ربع القرن على تلك الحادثة قائلا " إن كلمة غازيتجي التي تعني صحفي كانت تحمل معنى التشرد والفقر والصعلكة، حتى أنه حين اختار مسكنا ليستأجره وشرع في كتابة عقد الإيجار فهمت مالكة المسكن أنه صحفي ، فانتفضت من مقعدها وهي تقول" جورنالجي؟ وح يدفع منين ده؟ "! واستلزم الأمر كفاح نحو مئة عام لرفع الصحافة على الأكتاف ووضعها على كرسي " صاحبة جلالة"، وأنها " سلطة رابعة". انتزعت الصحافة احترام المجتمع أما الصحفي فظل ومازال يلقى أسوأ معاملة، مما دفع بيرم التونسي ليقول" أمشى حافي ولا أشتغلش صحافي". تعجرفت وتكبرت المهنة على أبنائها وصارت تتغذى على طاقة الشباب وتستغل عملهم بأجور زهيدة وأحيانا مجانا لسنوات طويلة من دون تعيين ثم تصرفهم وتشيعهم إلي الشارع من دون حقوق. سعداء الحظ ممن تم تعيينهم يمكن فصلهم بجرة قلم في أية لحظة كما فعلت جريدة "المصري اليوم" مع أربعين صحفيا العام الماضي. الآن لا يكاد يمر أسبوع إلا وأسمع أنهم صرفوا صحفيا شابا من جريدة، إما من البديل أو اليوم السابع أو العالم اليوم أوغيرها. ظهرت في بلاط صاحبة الجلالة تجارة "الرقيق الصحفي"، شباب يستنفدون طاقته ثم يلقون به إلي المقاهي حيث يجتر ذكريات إنجازاته. هذا في الوقت الذي تتصدر فيه صفحات تلك الجرائد أحر عبارات الدفاع عن حقوق الناس والحريات! كف المجتمع بعد نحو مئة سنة عن احتقار الصحفى، وبدأت الصحافة ذاتها تحتقره وتسوقه إلي الطرقات بحثا عن عمل ليصبح امتدادا لتاريخ المفصولين العظام. وعندما صدر قانون تنظيم الصحافة وأصله تأميمها في يوليو 1960، كان محمود السعدني وعبد الرحمن الخميسي وألفريد فرج وبيرم التونسي يعملون في جريدة الجمهورية، وتم فصلهم جميعا مع آخرين. ويحكي السعدني ماجرى فيقول إنه اتجه إلى الجريدة لاستلام راتبه الشهري، فناوله مسئول الخزينة محرجا ورقة أخرى ليوقع عليها، وإذا بها قرار فصله من الصحيفة! يقول السعدني " اتصلت بالخميسي وقلت له فصلوني ياعبد الرحمن"! فجلجل صوته في التلفون" مين الحمار اللي عمل كده؟ أنت فين دلوقت؟". قلت له " في الجريدة". قال" أنا جاي حالا أشوف المسخرة دي". وصل الخميسي ليحتج على فصل السعدني فتسلم هو الآخر قرار فصل من العمل! حل الذهول عليه وجرجر السعدني من يده إلي الشارع وأوقف تاكسي وجلس بداخله مع السعدني ونفخ بغضب يقول للسائق" اطلع بينا على الشعب يا أسطى". ظن السعدني أنهما في الطريق إلي جريدة الشعب ليحاولا الالتحاق بالعمل فيها، فسأل " تعتقد ح يشغلونا في جريدة الشعب؟". قال له الخميسي " جريدة إيه؟". استغرب السعدني" مش قلت للسواق اطلع على الشعب يا أسطى؟". فصاح فيه" الشعب يعني يطلع بينا على أي قهوة من القهاوى اللي الشعب المصري بيقعد فيها "! فقال له السعدني " لاء. نزلني أنا هنا وروح أنت للشعب"! الآن تلقى الصحافة بأبنائها إلي الشعب مشيا على الأقدام من دون تاكسي. لكن إن كان أولئك الشباب يعشقون الصحافة بصفتها " رسالة " كما علمنا سلامة موسى فإنهم سيواصلون السير على دربها وسيصبحون كتابا كبارا يمتعون الناس بأقلامهم برغم أو بفضل المشقة والتعب.