في العمق

عبد الله سعد الحميدي

عبد الله سعد الحميدي

[email protected]

 حاولت مرارا،  أفلح تارة و أخفق أخرى، كانت تجربة الغطس سهلة على، غير أن المشكلة في كانت عندما جربت الغوص، الغوص في الأعماق.

هناك في أقصى الغرفة في أقصى طرف المكتبة الصغيرة، يركن كتاب أو كتابان مضى على وجودهما أكثر من سنتين تقريبا، سبق لي أن قرأتهما مرتين ، لم أذكر أنه قد واجهتني صعوبة في قراءةٍ أو استعصى على فهم أحدهما ، إلا أن شعورا  أصبحت أدرك من خلاله أن للقراءة  أعماق لابد من تكبد عناء الغوص إليها لاستخراج مكنونات أسرارها ، أدركت أن ثمة خيوط دقيقة يرتبط بها المعنى بالحس ، فكانت كبار اللآلئ  غارقة في قيعان البحار وكانت أنجع الأدوية تلك التي استخرجت من بين أنياب الثعابين و كانت خير النباتات و أطيبها ما استوطنت قلل الجبال .

و كما قال ذالك العجوز لابنه وهو يعظه " يا ولدي إن خير السمك ما كثر شوكة وخير الثمر ما تطلبك العناء وخير الرأي ما أجهدت فكرك فيه ! "  و كم كان صادقا  ذالك الحكيم الفرنسي هيغو عندما قال " كما لا يوجد الماس إلا في جوف الأرض الفاحمة كذالك لا توجد الحقيقة إلا في أعماق التفكير ! "     

في الساعات التي أقضيها في المطالعة ،  مرارا ما تحين مني التفاتة نحو ذالك الجانب المنسي في أقصى المكتبة الصغيرة ، كنت أختلس النظر إليه بين الفينة و الأخرى . كنت قد أزمعت على الصبر حتى النهاية ، كنت أخشى ذالك المكان لأن الأفكار و القناعات ربما تغيرت ، لم أخش تغير القناعات يوما ما ، بل الذي كنت أخشاه عواقب هذا التغير و التبدل ، من الصعب أن يدفن الإنسان ما اعتقد صوابه . إذ أنه ما ليبث حتى تنمو أغصانه وفروعه شاقة تربة الكتمان لتمتد أغصانها وفروعها  على القول و الفعل .

في إحدى ليالي الشتاء الطويلة و بينما الكون كله يرقد في تلك العتمة المقدسة، و بينما يصفو كال شيء، النفس، الخيال.. الوقت، لم يكن عندها للصور و الأشكال

و بعض الأحاديث من هنا و هناك مما لزق بالذهن من مسلسلات الحياة اليومية

أي أثر، كان كل شيء يضمحل شيئا فشيئا حتى لا يبقى منه سوى ذرة صغيرة تحتل مكانها في جانب من الوجدان، لتجتمع في النهاية ذرات كثيرة لتكتب عنوان الحالة النفسية التي تعتري الإنسان.

كانت الأشياء في العمق مختلفة عما هي عليه من السطح، كانت الحياة تدب في كل شيء. و كانت الأخلاق ذات رائحة مميزة، رأيت الحياء قرصا من الشمس يطل من جبين أفق بعيد اكتست منه السماء ثوبا من الشفق. ورأيت الصدق نبتة صغيرة ما تلبث أن تشق الأرض و الصخر لتغدو فيحاء وارفة الفيء. و في جانب كان الكذب سرابا يتلألأ في وسط  صحاري  الصمت .  و كان  المال بحرا  لا يزيد شاربه إلا عطشا  . كانت الحقائق عارية من أي شيء بدون ألون أو نكهات إضافية .ربما أحببت في الأعماق من كنت أبغضه، و كرهت في الأعماق من كنت أهواه

علمت بعدها لم كانت الموضوعية و الحياد غاية في الصعوبة على كثير من الناس ، ربما لم يكونوا على استعداد تام ليقفوا ليعلنوا بشجاعة صوت الضمير.

أبحرت في بحر من الكلمات ، لأجد ما أبحث عنه لا ما يأتي به الآخرون لي ، سأبقى مسافرا ما امتد بي الأفق ، سأسعى و سأسعى و إن ضلعت مرة و زحفت أخرى ، ثمة مدن كثيرة لا بد أن  تزار و آفاق شاسعة أرغب في التحليق بها .

لا آبه

ولو تكسرت سفني

سأجعل من ذراعيّ

سفينة أخرى

سأودع الماضي

و أمضي

لن أعود

لأكون صندوقا عتيقا

يحمل القصص المملة