النهج الرباني يقود إلى النصر

نهج أبطال الإسلام في تاريخ طويل

د.عدنان علي رضا النحوي

www.alnahwi.com

[email protected]

صلاح الدين ! إنه اسم ملأ التاريخ عند العرب وعند المسلمين ، وفي أوروبا ، وظل اسمة مثلاً لعبقرية التخطيط والإدارة ، والقتال والنصر في الميدان على أعداء الله ، ومثلاً لقوة الإيمان ، والمروءة والأخلاق !

إنه القائد المسلم الذي أنزل بالصليبيين أشد الهزائم ، مع سمو الخلق وعظمة الإيمان ، وعبقرية السياسة . لقد كان متميزاً في نواحٍ متعددة حتى ترك أثراً عظيماً في التاريخ الإسلامي.

 ولد صلاح الدين في تكريت سنة 532هـ الموافق لها 1138 م (1) ، في ليلة مغادرة والدة نجم الدين قلعة تكريت التي كان والياً عليها ، ليكون والياً على بعلبك مدة سبع سنوات ، ثم انتقل إلى دمشق ، حيث قضى ابنه صلاح الدين طفولته فيها . كما قضى فترة شبابه في بلاط الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي ملك دمشق . وأصبح من القادة في جيش نور الدين .

وأرسله نور الدين الزنكي من دمشق مع الحملات في بلاد الشام والحملات إلى مصر ، مع عمه أسد الدين شيركوه ، وجعله على رأس الجيش الذي أسله من دمشق لمواجهة الصلبيين في بلاد الشام وفي مصر .

ولما بلغ صلاح الدين أن الأفرنج قصدوا دمياط استعد لهم وأعد الرجال المقاتلين وآلات القتال ، واشتد زحف الإفرنج على دمياط ، فأصبح الجنود يقاتلونهم من الداخل ، وهو يشن عليهم الغارات من الخارج . فانتصر عليهم ورحلوا عنها خائبين .

 وفي سنة 1170م أغار صلاح الدين على غزة التي كان يسيطر عليها الصليبيون ، وفي السنة التالية انتزع أيلة من مملكة أورشليم الصليبية ، وأغار على مقاطعتي شرق نهر الأردن الشوبك والكرك .

 بعد موت العاضد سنة 1171م دفع صلاح الدين العلماء إلى المناداة بالمستضيء العباسي خليفة والدعاء له في الجمعة والخطبة على المنابر . وبهذا انتهت الخلافة الفاطمية في مصر ، وحكم صلاح الدين مصر كممثل لنور الدين الذي كان في النهاية يقر بخلافة العباسيين .

 وحسّنَ صلاح الدين اقتصاد مصر ، وأعاد تنظيم الجيش مستبعداً منه العناصر الموالية للفاطميين ، وبعد وفاة نور الدين اتخذ صلاح الدين لنفسه لقب " سلطان " في مصر مؤسساً الدولة الأيوبية ، ومدّ نفوذه باتجاه المغرب العربي .

 وسبق أن انطلق شيركوه إلى جنوب مصر للقضاء على مقاومة بقية مؤيدي الفاطميين . ثم واصل تحركه جنوباً بحذاء البحر الأحمر ، باسطاً نفوذه على اليمن ، فأدخلها تحت نفوذ صلاح الدين .

 وآخّر صلاح الدين غزو مملكة بيت المقدس عامي 1170م و 1172م ، ولما توفي نور الدين توجه صلاح الدين إلى دمشق فدخلها واسُتقبل فيها بترحاب وتُوّج سلطاناً عليها . وثبّت ملكه وعضده بالزواج من أرملة نور الدين : عصمة الدين خاتون ، ثم بسط نفوذه على حلب والموصل عامي 1176م و 1186 م . وقد حاول الحشاشون اغتياله أثناء محاصرته لحلب ، وأجروا محاولتين ، ثم بسط نفوذه على الجزيرة شمال العراق ، وأخضع الزنكيين في الموصل وسنجار ، والأرتوقين في ماردين وديار بكر ، كما بسط نفوذه على الحجاز .

 وقد عاود الحشاشون محاولة اغتياله ، وكادوا ينجحون في المحاولة الثانية ، وحرقوه في وجهه وأنقذه الله منهم .

 كان صلاح الدين يرجئ معركته مع الصليبيين ، ويؤثر بسط نفوذه على عمق سورية ، إلا إذا أغار الصليبيون عليه . ففي موقعة مونتجيسارد يوم 25 تشرين ثاني 1177م ، ترك صلاح الدين جنوده يجمعون الغنائم ، فهاجمته قوات " بولدوين السادس " ملك أورشليم و " أرناط " و " فرسان المعبد " ، فهزمته ، إلا أن صلاح الدين عاد وهاجمهم من الغرب ، وانتصر على بولدوين في موقعة مرج عيون 1179م ، وفي السنة التالية في موقعة خليج يعقوب ، ثم تمت هدنة بين الصليبيين وصلاح الدين سنة 1180م .

 وما أتت سنة 1187م حتى سقطت أغلب مدن وحصون مملكة بيت المقدس في يد صلاح الدين ، بعد أن هزم الصليبيين في موقِعَة حطين في 4 يوليو 1187م ، حيث كان قد تجمّعت قوات الصليبيين من قوات جاي ذي لو زينان نائب ملك أورشليم ، وقوات ريموند الثالث ملك طرابلس، وكانت هزيمة كبيرة للصليبيين ، ونصراً عزيزاً منّ الله به على المؤمنين ، حيث كادت قوات الصليبيين تفنى على يد المؤمنين ، ونقطة تحوّل كبرى في تاريخ المجرمين الصليبيين ، كما أُسِر " أَرناط " وأشرف صلاح الدين بنفسه على إعدامه لعظم إجرامه وتحرّشه بقوافل المسلمين ، كما أُسِرَ جاي ذي لوزينان إلا أن صلاح الدين أبقى على حياته .

 ودخل صلاح الدين مدينة القدس يوم 2 تشرين أول 1187م بعد أن استسلمت المدينة . ورفض " بالبان " قائد الصليبيين في القدس شروط صلاح الدين أولاً ، حيث لم يمنح صلاح الدين عفواً للأوروبيين ، وهدد " بالبان " بقتل جميع أسرى المسلمين الذين يبلغ عددهم خمسة آلاف ، وهدم قُبّة الصخرة والمسجد الأقصى . فاستشار صلاح الدين مجلسة ، ثم قبل منح العفو ، على أن تُدفَع فدية لكل فرنجي في المدينة سواءً أكان رجلاً أم إمرأة .

 أثار احتلال المسلمين للقدس روح العداء والحقد المستقرّ في قلب الأوروبيين آنذاك ، فأعدوا حملة إجرامية ثالثة ، مُوِّلتْ بضريبة مالية خاصة في إنجلترا وأجزاء من فرنسا عُرِفت بضريبة صلاح الدين . وقاد الحملة ثلاثة من ملوك أوروبا : ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا ، فيليب أغسطس ملك فرنسا ، وفريدريك بربروسا ملك ألمانيا ـ الإمبراطور الروماني المقدّس ، إلا أن هذا الأخير مات أثناء الرحلة ، وانضمّ الآخران إلى حصار مدينة عكا التي سقطت آنذاك في أيديهم سنة 1191 م ، وأعدم هؤلاء المجرمون ثلاثة آلاف سجين مسلم بما فيهم من نساء وأطفال ، لينكشف الفرق الكبير بين موقف هؤلاء المعتدين المجرمين ، وموقف بطل الإيمان والإسلام .

 في سنة 1191م اشتبكت جيوش صلاح الدين مع جيوش الصليبيين بقيادة ريتشارد قلب الأسد في موقعة أرسوف التي انهزم فيها صلاح الدين ، ولكن لم يتمكن الصليبيون من اجتياح الساحل إلى الداخل ، وبقوا على الساحل ، وفشلت كل محاولاتهم لغزو القدس ، فوقًّع ريتشارد سنة 1192م معاهدة الرملة مع صلاح الدين ، مستعيداً شريطاً ساحلياً ما بين يافا وصور ، كما فتحت القدس للحجاج النصارى .

 وكانت العلاقة بين صلاح الدين وريتشارد علاقة فروسية وأخلاق إيمانية نابعة من مواقف صلاح الدين ، رغم الخصومة العسكرية ، فعندما مرض ريتشارد بالحمى بعث له صلاح الدين طبيبه الخاص ، كما أرسل إليه فاكهة طازجة وثلجاً لتبريد الشراب ، وعندما فقد ريتشارد جواده بعث له صلاح الدين بجوادين ، إلا أن الرجلين لم يلتقيا وجهاً لوجه .

 بعد رحيل ريتشارد بوقت قصير مات صلاح الدين من الحمى في دمشق يوم الأربعاء 27 صفر 589 هـ الموافق له 3 مارس 1193م . وعندما فُتحت خزائنه الشخصية وجدوا أنه لم يكن فيها ما يكفي من المال لجنازتة ، فلم يكن فيها سوى سبعة وأربعين درهماً ناصرياً ، وجراماً واحداً ذهباً سورياً ، ولم يخلّف وراءه مُلْكاً ولا داراً ، إذْ أنفق معظم ماله في الصدقات. رحمه الله رحمة واسعة .

 ودُفِن صلاح الدين في قبر في المدرسة العزيزية قرب الجامع الأموي في دمشق إلى جوار الملك نور الدين زنكي .

 وعندما زار إمبراطور ألمانيا فلهلم الثاني مدينة دمشق توجه إلى قبر صلاح الدين ووضع باقة زهور جنائزية على قبره عليها نقش معناه : " مللك بلا خوف ولا ملامة ، علّم خصومه الفروسية الحق "

 إنه بطل مؤمن رسم الإيمان بنهجه كله ، فكان النموذج البقري الذي أذهل الجميع بعظمته وإيمانة .

 أرسى صلاح الدين دعائم حكمه في مصر ، وقضى على محاولات بقايا الفاطميين في مصر الذين تحالفوا مع الإفرنج الصليبيين ، وقضى نهائياً على حكمهم في مصر بعد أن استمر قرابة قرنين ، وبعد أن قضى على " شاور " الذي انقلب عليه وأخذ يتعاون مع الصليبيين ضده ، وبعد أن قضى على تمرد الجنود الزنوج ، وبعد أن توفى عمه أسد الدين ، أصبح الحاكم المطلق في مصر .

 وأخذ صلاح الدين يمدّ نفوذه وسيطرته ، فحكم مصر واليمن ودمشق ثم حلب والموصل ، فوحّد البلاد ووحّد الأمة ، ونشر الإسلام وأكرم علماءه وقرّبهم إليه .

 ولقد استفاد صلاح الدين من جهود مَنْ سبقوه من القادة المسلمين ومن علماء الإسلام . استفاد من جهود عماد الدين الزنكي الذي كان أول سلطان خاض المعارك لمقاومة الصليبيين . وكذلك استفاد من جهود السلطان الصالح نور الدين زنكي الذي يعتبره بعضُهم الخليفة السادس بعد الخلفاء الأربعة وبعد الخليفة عمر بن عبد العزيز . وحكم بلاد الشام وحلب والموصل . ودفع إلى مصر أسد الدين شيركوه عمّ صلاح الدين ومعه صلاح الدين ، ودخل في معارك مع الصليبيين متكررة .

 واستفاد صلاح الدين من جهود العلماء : مثل أبي حامد الغزالي الذي قاوم الفكر الصوفي المنحرف والمذاهب المنحرفة ، واستفاد من غيرة من العلماء .

 وهكذا أخذ المجتمع الإسلامي يعود إلى صفاء الإسلام وجلائه ، وقوته وعزته . وأخذت الجهود تتلاقى على الحق وعدالة الإسلام ن فارتبط هؤلاء العلماء والفقهاء والرجال وآل زنكي، وصلاح الدين الأيوبي ، وغيرهم صفاً مؤمناً واحداص .

 وأصبح المجتمع يُخَرِّج العلماء المرتبطين بالإسلام دون انحراف ، وجمع صلاح الدين الصادقين من العلماء والقضاة والكُتّاب حوله ليكونوا مجلسه الرسمي للشورى والتعاون .

 كان الهدف الحقيقي لصلاح الدين تحرير البلاد الإسلامية من الصليبيين ، ولكنه لم يدخل مع الصليبيين أي معركة حتى استتب له الأمر ، وجمع القوة العسكرية المؤمنة ، ووحّد الأمة صفّاً واحداً من مصر وبلاد الشام واليمن ن ومن دمشق إلى حلب إلى الموصل .

 إذاً ، فقد أعد صلاح الدين الخُطَّة والعُدَّة ، وجمع الأمة على صدق الإيمان ، وصفاء التوحيد ، وجمع العلماء على نهج واحدٍ يهدف إلى منازلة الصليبيين وتحرير البلاد منهم .

 ولم يقف دور صلاح الدين عند ذلك ، ولكنه نفخ روح الجهاد في المسلمين ، حتى يتابعوا بعده منازلة الصليبيين فيما بقى لهم من سيطرة في بعض المدن .

 كالظاهر بيبرس الذي استعاد أنطاقية سنة 666هـ الموافق 1268 م ، والسلطان قلاوون الذي استعاد طرابلس سنة 688 هـ الموافق 1289م ، والملك الأشرف الذي استعاد عكا سنة 690 هـ الموافق 1291 م .

 ثم استرجع المسلمون جميع الساحل بما فيه صيدا وبيروت ، وبقي الصليبيون في جزيرة أَرواد حتى سنة 1303 م .

 وقضى المسلمون على كل وجود للصليبيين في دار الإسلام ، بعد أن استمرّ حوالي قرنين.

 ونخرج من هذا الموجز السريع بنتائج هامة نحتاجها اليوم في معركتنا مع أحفاد الصليبيين:

1.        أتمّ صلاح الدين جمع كلمة المسلمين في مصر ودمشق وحلب واليمن والموصل وغيرها .

2.   نشر الإسلام الصحيح ودعم علماءه ودعاته ، وصدّ المنحرفين والمفسدين من الصوفية والبدع والأحزاب المتصارعة .

3.        أعدّ الإعداد الكامل ببناء القوة العسكرية التي ستخوض المعارك ضد الصليبيين .

4.        ثم وضع خطته العسكرية ، وحدَّد من أين يبدأ المعركة التي استمرّ بها قرابة عشرين عاماً .

5.   لقد كان لزهده هو ، وطلبه الآخرة لا الدنيا ، وصدقه مع اللّه في سرّه وعلانيته ، أن منّ اللّه عليه بالنصر والتمكين بما صدق اللّه فيما بذل وعمل وجاهد .

 ونلخّص كل خطوات الإعداد بكلمة واحدة : إنه جمع الأمة والصادقين ووحّد دربهم وفكرهم على صدق إيمان وتوحيد .

 هذه هي القاعدة التي ندعو إليها في معركتنا اليوم مع أحفاد الصايبيين الذين يعيدون سلوك أجدادهم وجرائمهم بأساليب جديدة تجمع بين البطش وشدة الإجرام ، وبين الكيد والمكر ومعسول الكلام !

 إن هذا النهج الذي اتبعه صلاح الدين هو نهج جميع أبطال الإسلام منذ عهد النبوّة الخاتمة والصحابة الأبرار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . إنه النهج الذي يرسمه منهاج اللّه ـ قرآناً وسنة ولغة عربية ـ إنه نهج لقاء المؤمنين في أمة واحدة ، صفاً واحداً على أسس ربانية تصدق بها القلوب والسواعد .

 إننا ندعو بشكل واضح صريح إلى لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن ، في صفٍّ واحد متماسك كالبنيان المرصوص ، ولا يجمع المؤمين في هذا اللقاء إلا صدق الإيمان وصفاء التوحيد ، وصدق العلم بمنهاج الله ، ووعي الواقع من خلال منهاج الله ، وعلى هذه الركائز يَقوم نَهْجُ مدرسة لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن .

 وكلُّ من يتابع دراسة منهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربية ـ يجد أن منهاج الله فصّل للمؤمنين سبيل النصر ، ودعاهم إليه ، وحذّرهم من طرق الشيطان ودروب الهزيمة والخسران، في بيانٍ معجزٍ يسًّره الله للذكْر .

 هذا هو نهج صلاح الدين في حياته كلها ، حياته التي سخّرها بفضل الله وهدايته لنصرة دين الله وعزة الإسلام والمسلمين ، وردِّ كيد الكافرين . وهو نهج جميع أبطال الإسلام في تاريخه الطويل .

 صدقوا الله فَصَدقَهم وعْده . وكان من أبرز مظاهر الصدق في البذل والعطاء هو ارتباط الأجيال كلها بنهج واحد ، كلُّ جيلٍ يكون امتداداً للجيل قبله ، يرتبط به ، ويمتدّ إلى الجيل الذي يليه ويرتبط به .

من كتاب " فلسطين وصلاح الدين " للدكتور عدنان علي رضا النحوي .

               

(1) البداية والنهاية لابن كثير : ج 11 ، ج 12 ، الإنترنت : الموسوعة الحرة : ويكيبيديا .