تراث الإمام البنا من منظور جديد
تراث الإمام البنا من منظور جديد
السيد شعيب
باحث في الفلسفة الإسلامية
اعتاد الناس على القول بأن الإمام البنا لم يكن كاتبا أو مؤلفا أو مفكرا وإنما كان جل اهتمامه تكوين الأجيال وإعدادهم وتربيتهم تربية إسلامية صحيحة لذلك لم يخلف وراءه تراثا فكريا ذا بال باستثناء كتابيه "الرسائل" و"مذكرات الدعوة والداعية" وهما المصدران الرئيسان الذي اعتمد عليهما معظم الباحثين والدارسين والمعنيين برصد الظاهرة الإخوانية ومتابعة مسيرتها ونقد أفكارها ...إلخ
بل لقد سيطر هذا الاعتقاد على الغالبية العظمى من الإخوان أنفسهم إلى يومنا هذا.
والحقيقة أن هذا الاعتقاد الخاطئ قد تسرب إلى الناس نتيجة لمجموعة من العوامل أهمها:
1-أن تراث الإمام البنا لم يصل للناس كاملا وذلك لتناثر معظمه في المجلات والصحف التي صدرت في فترتي الثلاثينيات والأربعينيات .
2- أن حملات الاعتقال والاضطهاد الواسعة التي تعرض لها الإخوان عقب حل الجماعة واستشهاد الإمام البنا وما أعقب ذلك من محن وابتلاءات أدت إلي ضياع الكثير من ذلك التراث.
3-ما أثر عن الإمام البنا نفسه من قوله "إنما شغلت بتأليف الرجال لا الكتب".
وبالفعل لم يعن الإمام البنا بتأليف الكتب على النحو الذي يقعد الداعية أو المصلح عن القيام والحركة بين الناس أو تبليغ الدعوة أو جمع الأنصار والمؤيدين أو على النحو الذي تكون الكتابة فيه هدفا بعينه وإنما كانت الكتابة عند الإمام البنا وسيلة لتحقيق هدف أسمى هو تكوين جيل إسلامي فريد يصنع على عينيه ويتربى بين يديه يتربي بالقدوة لا بالكلام وبالعمل قبل الأقوال هذا الهدف لا يتحقق إلا بالعمل والسعي والسفر والترحال والتربية العملية والتوجيه المباشر لذلك تأتي الكتابة لديه كوسيلة أو أداة يبين بها فكرته ويشرح بها مقصده وهذا هو المعنى الذي يقصده الإمام البنا من قوله: "إنما شغلت بتأليف الرجال لا الكتب".
لقد كتب الإمام البنا مئات المقالات والرسائل التي تخدم فكرته وتوضح دعوته وتزيل ما يثار حولها من شبهات وأباطيل خرج معظمها اليوم في ثوب قشيب يسمى "سلسلة من تراث الإمام البنا" أو ما يمكن أن نطلق عليه "الأعمال الكاملة للإمام البنا" وقامت شركة البصائر للبحوث والدراسات بجهد كبير في إخراج أعمال الإمام البنا وبعثها من جديد من بطون الدوريات المختلفة المتناثرة هنا وهناك وقام فريق من الباحثين والمراجعين بإعداد هذه المواد وتنقيحها وتهذيبها ومراجعتها على الأصول وإخراجها في أربعة عشر مجلدا احتوت على موضوعات شرعية وأخرى فكرية وسياسية ودعوية واجتماعية...إلخ بالإضافة إلى طبعة جديدة للرسائل تحتوي على إضافات مهمة ورسائل جديدة تنشر لأول مرة .
ويتألف هذا التراث من الكتب الآتية:
1-العقيدة والحديث
2-التفسير
3-من خواطر القرآن
4-الفقه والفتوى
5-عظات منبرية
6-مناسبات إسلامية
7-إلى الأمة الناهضة
8-في الإصلاح الاجتماعي
9-الإصلاح السياسي
10-مقالات في العالم الإسلامي
11-مقالات حول القضية الفلسطينية
12-في الدعوة والتربية
13-الدعوة والهيئات والحكومات
14-مراسلات وأدبيات
15-الرسائل
هذا ومن نافلة القول أن نوضح عدة حقائق:
أولا- تحتوي هذه المقالات على إضافات كثيرة تساعد الباحثين والدارسين والمراقبين على تكوين رؤية متكاملة عن مشروع النهضة عند الإمام البنا.
ثانيا- تعطي هذه المقالات صورة تاريخية وفكرية عن الفترة التي عاشها الإمام البنا والتي أسس فيها جماعته.
ثالثا- مراعاة الترتيب التاريخي للمقالات يساعد على معرفة التطور الفكري لدى الإمام البنا فما كتبه الإمام البنا في فترة الثلاثينات يختلف عما كتبه في الأربعينيات ونضرب على ذلك مثالا واحدا على سبيل الاستشهاد لا الحصر:
ذهب الإمام البنا في رسالة المرأة المسلمة التي كتبها في بداية الأربعينيات إلى القول بتحريم الاختلاط بين الرجل والمرأة وذلك في قوله "الإسلام يرى فى الاختلاط بين المرأة والرجل خطرًا محققًا، فهو يباعد بينهما إلا بالزواج، ولهذا فإن المجتمع الإسلامى مجتمع انفرادى لا مجتمع مشترك"(كتاب الرسائل ص:406 دار التوزيع والنشر الإسلامية) ثم أباحه بقيود في مقال آخر نشر عام 1948 وذلك في قوله" وقد لاحظ الإسلام أن إباحة اختلاط الجنسين بدون قيود ولا شروط مجلبة لمفاسد كثيرة، التجربة فيها أعدل شاهد، فقيد هذا الاختلاط بالقيود التى تدفع الشر والإفساد من: عدم الخلوة، وتحريم إظهار الزينة، والخضوع بالقول إلخ.(كتاب في الدعوة والتربية ص: 243دار التوزيع والنشر الإسلامية) وفي موضع آخر من نفس الرسالة يذهب إلى القول بتحريم مزاولة المرأة للأعمال العامة وذلك في قوله: يقول كثير من الناس: إن الإسلام لم يحرم على المرأة مزاولة الأعمال العامة، وليس هناك من النصوص ما يفيد هذا فأتونى بنص يحرم ذلك. ومثل هؤلاء مثل من يقول: إن ضرب الوالدين جائز؛ لأن المنهى عنه فى الآية أن يقال لهما: أف، ولا نص على الضرب.
إن الإسلام يحرم على المرأة أن تكشف عن بدنها، وأن تخلو بغيرها، وأن تخالط سواها، ويحبب إليها الصلاة فى بيتها، ويعتبر النظرة سهمًا من سهام إبليس، وينكر عليها أن تحمل قوسًا متشبهة فى ذلك بالرجل، أفيقال بعد هذا: إن الإسلام لا ينص على حرمة مزاولة المرأة للأعمال العامة؟!0(الرسائل 413) ثم يعود إلى القول بإباحة ذلك في مقال آخر عام 1948 وذلك في قوله:" كما أعلن المساواة بينهما كذلك فى الحقوق المدنية والسياسية العامة، وإذا كان هناك تفريق فى بعض حالات الأهلية أو التصرف أو الاستحقاق فإنما اقتضته طبيعة التكوين، أو وظيفة كل منهما فى هذه الحياة، وقد لاحظ الإسلام أن إباحة اختلاط الجنسين بدون قيود ولا شروط مجلبة لمفاسد كثيرة، التجربة فيها أعدل شاهد، فقيد هذا الاختلاط بالقيود التى تدفع الشر والإفساد من: عدم الخلوة، وتحريم إظهار الزينة، والخضوع بالقول إلخ. فإذا كانت مزاولة بعض الحقوق ستؤدى إلى هذا الفساد كان من الواجب حرصًا على المصلحة إرجاء استخدام هذا الحق إلى أن تأتى الفرصة التى لا يؤدى استخدامه فيها إلى هذه النتيجة الضارة، ومن ذلك حق الانتخاب للمرأة لا يستطيع أحد أن يقول: إن الإسلام يمنع منه، ولكن الظروف الاجتماعية تحتم إرجاء استخدامه، وإذا كنا لا زلنا نشكو إلى الآن من سوء استخدام الرجال لهذا الحق، فكيف نحسن الظن بإباحة ذلك للنساء أيضا؟! فالمسألة عندنا نحن المسلمين ليست مسألة مبدأ، ولكنها مسألة تطبيق، وذلك مرهون بالظروف والأحوال(في الدعوة والتربية ص:243) وقل مثل هذا في قضايا أخرى كثيرة جديرة بالبحث والوقوف عليها ودراستها دراسة دقيقة متأنية وموضوعية.
هذه دعوة للباحثين والدارسين من الإخوان وغيرهم إلى إعادة النظر في تراث الإمام حسن البنا وتقييمه على ضوء هذا التراث الجديد الذي لا يعد تراثا إخوانيا فحسب بل يعد تراثا إسلاميا وإنسانيا كذلك .والحمد لله أولا وآخرا.