صوت التراث والهوية

د. إبراهيم نمر موسى

د. إبراهيم نمر موسى

[email protected]

جامعة بير زيت

المقدمـة

شكّل الموروث الشعبي بأشكاله المتعددة ظاهرة فنية ، ذات أثر بالغ في بنية الخطاب الشعري الفلسطيني المعاصر ، حيث أعاد الشعراء الفلسطينيون من خلاله اكتشاف الماضي في ضوء تجليات الحاضر ، بأبعاده الإنسانية الملتصقة بدم الشعب وروحه وممارساته الحياتية اليومية ، فأعادوا تشكيله من جديد ، وفق رؤيا شعرية تمتص المحمولات الدلالية الموروثة ، لتكشف عن طزاجة التجربة الشعرية ، وخصوصية مبدعها في تعبيره عن الواقع المعيش ، واستطاعوا بناء علاقة جدلية بين الشعر الرسمي والموروث الشعبي ، وردموا بذلك الهوة السحيقة التي كانت تفصل بينهما ، كما جعلوا منهما كياناً بنيوياً متكاملاً مع العناصر الفنية الأخرى التي يحتوي عليها النص الشعري لإنتاج الدلالة الكلية .

بناء على ما سبق ، يظهر أن الموروث الشعبي لا يعيش شكلاً وقوالب في النص الشعري الفلسطيني ، لأن العلاقة بينهما ليست علاقة ميكانيكية مجردة ، بل هي علاقة تفاعل جدلي ، وتلقيح حي بين طرفين تتولّد منهما حركة الواقع ، وصورة جديدة للكون ، تفاجىء المتلقي أو تصدمه بدلالات غير متوقعة ، في حين لم تكن هذه الرؤيا للموروث الشعبي بهذا الوضوح لدى كثير من المدارس الأدبية العربية في العصر الحديث ، التي اكتفى فيها الشعراء باستخدام الموروث استخداماً آلياً لا يبتعد كثيراً عن القشرة الخارجية له ؛ لذلك لم يقدّر لهم أن يستوعبوا الموروث، ويعملوا على تطويره وإعادة صياغته وبنائه وفق رؤيا جمالية ، وأسس إبداعية جديدة

تنبـع أهمية هذا الكتاب من كونه محاولة دراسة الشعر الفلسطيني دراسة علمية وموضوعية ، تستند إلى إنجازات المناهج النقدية الحديثة ، ومدى ارتباطها بواقع الإنسان الفلسطيني ، وقدرتها على تبيان همومه وقضاياه الوطنية والقومية والإنسانية . يضاف إلى ذلك دراسة شعر اثني عشر شاعراً موزعين توزيعاً مكانياً وزمانياً ، يغطي مساحة مكانية واسعـة داخل الوطن "قطاع غزة والضفة الغربية" ، أو داخل فلسطين المحتلة سنة 1948م ، أو في الشتات "المنفى" العربي . كما يعطي صورة واضحة القسمات عن حياة الشعر الفلسطيني عامة ، وعن توظيف الموروث الشعبي خاصة .

  ينقسم الكتاب إلى مقدمة قصيرة ، بيّنت فيها علاقة الشعر بالأدب الشعبي ، ثم قسمته إلى أربعة فصول ، ناقشت في الفصل الأول "الحكاية الشعبية" ، وفي الفصل الثاني "الأغنية الشعبية" ، وفي الفصل الثالث "العادات والتقاليد" ، وفي الفصل الرابع "المثل الشعبي" ، وأفردت في كل فصل عدة عناوين فرعية ، حللت من خلالها إشارات شعبية مثل : ألف ليلة وليلة ، والحكاية الشعبية ، والحكاية الخرافية ، والسير الشعبية . وأغاني الحب والأفراح ، وأغاني الوطن والحرب . وعادات الضيافة والمجاملات ، والبيت ، والتعاويذ والعرافة . وأمثال القيم الأخلاقية ، والوطن والتحدي ، والموت والعذاب …الخ . وقد تضافرت هذه الفصول مع بعضها بعضاً للتعبير عما توارثته الأجيال جيلاً بعد جيل ، مما جعل القصيدة جزءاً من كيان الأمة وهويتها القومية ، ووجودها الحضاري ، كما جعلها ذات حضور في الذاكرة الجماعية باعتبارها انعكاساً اجتماعياً وجمالياً ، عمل على توثيق الصلة بين الأدب الشعبي والقصيدة الشعرية الفصيحة ، فأصبح لها طاقة تأثيرية قوية ، وحضور فاعل ضد محاولات الطمس والتذويب والسرقة التي مارسها ويمارسها الاحتلال الإسرائيلي ؛ لينفي عن الشعب الفلسطيني مقوماته الحضارية والإنسانية ، وأحقيته في فلسطين التاريخية .

والله من وراء القصد

المدخل/الشعر والأدب الشعبي

ما زال تعريف الأدب الشعبي "الفولكلور"، يفرض جدلاً واسع النطاق على دارسيه في البيئات المختلفة أو في داخل البيئة الواحدة، حيث ترى فئة من نقاده أنه أدب العامة التقليدي الشفاهي المجهول المؤلف، المتوارث جيلاً بعد جيل ، ومؤدى هذا الرأي إسقاط أدب العامية الحديث ، الذي أذاعته المطبعة ووسائل النشر الحديثة. أما الفئة الثانية من النقاد فتعتمد على وسيلة أداء التجربة الفنية "اللغة" ميزاناً للتعريف، حيث ترى أن التراث الشعبي هو أدب العامية سواء كان مجهول المؤلف أو معروفه، متوارثاً عن السلف السابق أو أنشأه معاصرون. أما الفئة الثالثة فتعتمد على محتوى الأدب لا شكله، أي موضوع التجربة الفنية، ولذلك فهو عندهم الأدب المعبِّر عن الشعب، والمستهدِف تقدمه الحضاري، يستوي فيه أدب الفصحى وأدب العامية. ولعلّ هذا الاختلاف في تعريف "الأدب الشعبي" مرده إلى الاختلاف في تحديد كلمة "شعبي" تحديداً دقيقاً، أو الفصل في الثقافة والتراث بين ما هو شعبي، وما هو غير شعبي لأنهما متداخلان، لكن الأدب الشعبي يتصف في رأي د. أحمد رشدي صالح عن غيره من تراث الفصحى، بأنه يتسم بأربع قسمات رئيسية هي : العراقة، والواقعية، والجماعية، والتداخل مع فروع المعارف والفنون الشعبية الأخرى.

وقد اقترب بعض النقّاد في تعريف الأدب الشعبي "الفولكلور" من روحه الشعبية وجوانبها المرتبطة بالتوارث الشفاهي واللهجة العامية وجهل المؤلف… إلخ، فقد عرّفه "آشر تايلور" بأنه "المادة التي تنتقل من جيل إلى آخر، سواء عن طريق الكلمة المنطوقة أو العادة أو الممارسة"، وعرّفه "جون ميش" بأنه "الحصيلة الكاملة للعادات والتقاليد والمعتقدات القديمة السابقة ، التي عاشت بين الطبقات غير المتعلمة في المجتمعات المتحضرة ، واستمرت إلى وقتنا هذا". وهذا يعني أن الأدب الشعبي جزء من الثقافة الجماعية المستقرة في وعي الجماعة أو لا وعيها، ويشكِّل نمط سلوكها وطباعها ومعتقداتها بغض النظر عمّا إذا كان الفرد متعلماً أو غير متعلم، لأن أثره سيبقى حاضراً في فكره وسلوكه.

أما فروع الأدب الشعبي ومادته فهي كثيرة ومتشعبة، نشأت بصورة عفوية جماعية نتيجة تراكم الخبرة

الإنسانية، ثم صيغت في قوالب حدد على أساس منها السلوك والعادات والتقاليد التي يمارسها الإنسان في حياته

اليومية وتجربته المعيشة، وبقيت حية وصالحة للتداول عبر الزمن ، تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، ليس لأهميتها الاجتماعية فحسب ، بل لأهميتها في فهم الحياة أيضاً، فنشأت نتيجة لذلك عدة فروع تشكِّل في مجموعها خلاصة التجربة الإنسانية . فكانت الأسطورة والحكاية الشعبية والحكاية الخرافية والسير الشعبية والأغاني الشعبية والعادات والتقاليد والأمثال والحكم…إلخ، كلها تجليات للسلوك الإنساني في أُطره الاعتقادية والاجتماعية والإبداعية، وقد استطاعت هذه الأطر السلوكية للأدب الشعبي أن ترسم  "أدق الخلجات النفسية بصورة راقية مركَّبة ورهافة ظاهرة، وبحيث تستطيع فنونه أن تخلد على الأيام، فلا يزيدها الاستعمال إلا طيباً وصلاحية وعمق تأثير"، ويمكن تقسيم هذه الفنون إلى أربعة أقسام هي:- المرويات المأثورة أو الحكايات الشعبية، والفنون الشعبية، والعادات والتقاليد، والأقوال السائرة.

تنبع أهمية الأدب الشعبي لأمة من الأمم من اعتباره جزءاً من كيانها وهويتها الوطنية ووجودها الحضاري، ولهذا عمد الشعراء الفلسطينيون إلى استجلائه في شعرهم فاستحضروا الموروث الشفاهي المتواتر ، باعتباره جسراً رابطاً بين طموحاتهم ورغباتهم في الحلول بتراب الأرض من جهة، والاتصال المباشر بالجماعة متمثلاً في لغتها وحكاياتها وأغانيها ومعتقداتها وأمثالها، التي انطبعت نفوسهم وأحلامهم على صفحتها من جهة أخرى، وقد خلق هذا مجالاً حيوياً خصباً للتفاعل بين الشاعر ونبض الشعب وروحه وكيانه، أدى إلى حضور الشعر/القصيدة في الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني باعتبارها انعكاساً اجتماعياً وجمالياً وإبداعياً، عمل على توثيق الصلة بين الأدب الشعبي والقصيدة الشعرية الفصيحة ، فأصبح لها طاقة تأثيرية قوية، وحضور فاعل ضد محاولات الطمس والتذويب والسرقة ، التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي لينفي عن الشعب الفلسطيني مقوماته الحضارية والإنسانية، وأحقيته في فلسطين التاريخية، واتخذ في ذلك وسائل متعددة في التعامل مع التراث الفلسطيني لطمسه ،  وقد ذكر د. عبد العزيز أبو هدبا بعضاً منها بقوله : قامت سلطات الاحتلال بتقييد حرية النشر والطباعة وخاصة المطبوعات التراثية أو تأخير صدورها، وإعاقة المهرجانات الفولكلورية أو إيقافها، كما قامت باتخاذ إجراءات تعسفية ضد العاملين في هذا الحقل، فقد استشهد منهم الكثير أو اعتقل أو استدعي للتحقيق أو هدد بالاعتقال ، وكان ذلك مقدمة لطمس الوجود الفلسطيني كله، ولكنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً.

كما حاول الكيان الإسرائيلي أيضاً انتحال التراث الفلسطيني في رقصاته وأزيائه الشعبية من خلال اعتماده زيِّـاً رسمياً لمضيفات الطيران على طائراته ، وغير ذلك كثير، وقد ساعده في ذلك كثير من الباحثين الشعبيين، فعندما وضع رجل التبشير "تومسون" كتابه "الأرض والكتاب" ، كان يشير إلى فلسطين بغير هذا الاسم، فتارة يسميها "أرض الميعاد وأرض إسرائيل" ، وتارة أخرى "أرض أنبياء وملوك إسرائيل"، وحين يذكر أسماء القرى والمواقع فإنه يشير إليها بالاسم التوراتي، وعند اضطراره لذكر اسم عربي لقريـة فلسطينيـة، كان ينعتها بالمعاصرة. لكن الباحثة الشعبية السويدية "هيلما جرانكفست" كشفت التزوير الصهيوني حين درست عادات الزواج والميلاد والطفولة والملابس الشعبية في فلسطين "وأثبتت الباحثة عن طريق البحث العلمي المنصف استقلال الشعب الفلسطيني في تراثه عن الشعب اليهودي ، كما أثبتت أن الشعب الفلسطيني هو الأصل في أرضه قبل أن يفد عليه اليهود الغزاة"، وبذلك نسفت الباحثة السويدية الأسس المغلوطة التي قامت عليها الدعاية الصهيونية، من أن التراث الشعبي الفلسطيني لا يعدو كونه مرآة ، تعكس التراث الشعبي اليهودي.

بناء على ما سبق، لا تشكِّل عودة الشعراء الفلسطينيين للأدب الشعبي نكوصاً أو فراراً من الحاضر، بل يمكن اعتبارها سراجاً يضيء الماضي والحاضر ويستشرف المستقبل، وخاصة أن توظيفهم للأدب الشعبي الفلسطيني والأدب الشعبي العربي  - في أكثره -  لم يكن استخداماً ساذجاً ، يقف عند قشرته الخارجية بغية رصده وتسجيله، بل كان توظيفاً يستند إلى محاورة النص الغائب وامتصاصه وتوليد دلالات جديدة ومعاصرة ترتكز إلى الواقع، وتعبِّر عن هوية الشعب الفلسطيني ووجوده ومأساته الإنسانية في الآن نفسه، وبذلك مزجت القصيدة في علاقة إبداعية بين عبق التراث وروح الشعر وعبقريته، واحتفظت بتوقده الإنساني.

إن معايشة الشاعر الفلسطيني اليومية داخل فلسطين أو خارجها للتراث الشعبي الفلسطيني ، الذي يملأ الفراغ المكاني، والفضاء الاجتماعي مـن حوله بإلحاح، ويتجلى في صيغ الكلام المسكوكة، وعادات الزواج ، وأغاني الأفراح والعمل وقت جني الزيتون خاصة، والملابس والصناعات الشعبية…إلخ، جعلته هذه المعايشة يفتح وعيه الشعري على أصوات شعبية وواقعية، تعكس ما يجري في أعماقه وأعماق المجتمع بطبقاته الشعبية من تفاعلات وأحداث، تنداح بين يديه لتغطي مساحة الوطن، ويحقق من خلالها شعرية التراث في نسيج قصيدته وبنائها الفني، ويكشف عن حضور لافت للوطن وأشيائه ومكوناته الوجدانية والشعبية التي استقرت في وعيه أو لا وعيه . ورغم غياب بعض الشعراء الفلسطينيين عن الجغرافيا الفلسطينية إلا أنهم شكَّلوا حضوراً فيها، وأعادوا كتابة أسماء المدن الفلسطينية المدمرة على خارطة العالم، وعلى خارطة الشعر، وعبّروا عن نبض الشعب الفلسطيني، الذي ما زال كثير من أبنائه الذين هُجِّروا ظلماً وعدواناً من أراضيهم وبيوتهم، يحتفظون حتى هذه اللحظة بمفاتيح بيوتهم ، أو "كواشين الطابو" أي المستندات الثبوتية الرسمية لامتلاك الأرض، يحدوهم الأمل في العودة إلى ما تركوه قسراً سنة 1948م . وبهذا عبَّر الشعراء عن الوجدان الفلسطيني ضد عوامل القمع والاجتثات والاستلاب، واستثمروا قرب التراث الشعبي من نفوس الجماهير، فجعلوا منه كياناً بنيوياً محمَّلاً بأبعاد الرؤيا الفكرية والإنسانية، وشبكة من العلاقات الدلالية المتضافرة في نسيج النص الشعري .

لقد استقى الشعراء الفلسطينيون من التراث الشعبي كثيراً من مواده وموضوعاته، للكشف عن حقيقة وجودهم الذاتي أو الإنساني ضد محاولات الطمس والإلغاء الصهيونية، وعادوا من خلالها إلى منابع المعرفة الشعبية في بكارتها وفطرتها، للتعبير عن قضايا ومضامين معاصرة تجسّد تصورهم الكلي للعالم، وحلمهم في صنع مستقبل إنساني، تنفتح فيه الرؤيا الشعرية وترتحل لمناطق شعورية ولا شعورية متغلغلة في أعماق النفس الفلسطينية والأدب الفلسطيني ، لتأكيد وجوده الذاتي وهويته الحضارية، وقد تم لهم ذلك بتحويل الأنساق الشعرية إلى رموز  ترتبط بالإطار الجماعي لا الفردي، أثرت الخطاب الشعري بتعدد دلالاته الجمالية المنتجة.

تستوقف المتأمل في توظيف الشعر الفلسطيني للأدب الشعبي، ظاهرة الزخم الكمي والنوعي للإشارات الشعبية، واستقصاء كثير من الحكايات والعادات والأغاني والأمثال الشعبية، مما أدى إلى وضعها في مجموعات، وتصنيفها في حزم كلية تندرج تحت كل واحدة منها عدة إشارات شعبية ، تشكِّل موضوعاً متجانساً حتى يسهل حصرها ومن ثم دراستها وتحليلها، فضلاً عن أهميتها كإشارات مستمدة من الذاكرة الجماعية للتعبير عن مرحلة مهمة من مراحل التاريخ الفلسطيني المعاصر. وبذلك كانت محاولة شعرية مهمة ضد طمس التراث الفلسطيني واستلابه وسرقته، وتأكيداً في الوقت نفسه على حضور التراث الفلسطيني والشعب الفلسطيني وانغراسهما في التراب والأرض الفلسطينية.