تأملات تربوية في سورة ( ص)
المقال الأول
د.عثمان قدري مكانسي
1- شرّف الله تعالى المسلمين بالقرآن العظيم حين قال سبحانه : " ص والقرآن ذي الذكر " وقد قال عمر رضي الله عنه : نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله . وهل كان العرب قبل الإسلام إلا قبائل متناحرة وأمة مغلوبة يسيطر عليها الروم والفرس ؟ فلما عرفت الإسلام شَرُفـَتْ وارتفع شأنها وسادت الدنيا ، ولما تركت الإسلام ولحقت بكل ناعق خمد ذكرها وصار أهلها خَوَلاً .. وقد أكد المولى تعالى ذلك في أكثر من موضع من القرآن الكريم فقال في سورة الأنبياء : " لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم " والذكرُهو الشرفُ العالي والمكانة السامقة ، وقال تعالى " وإنه لذكر لك ولقومك " فما يدعه إلا غافل جاهل ولا يلتزمه إلا لبيب عاقل . وقد خبرنا وضع أجدادنا وأسلافنا حين حملوه في قلوبهم وسواعدهم ، فخضعت لهم الدنيا ، وها نحن نتركه زاهدين فيه فتنقلب أحوالنا ذلاً وخنوعاً وضعفاً وهواناً .
2- لماذا يأبى الكافر قولة الحق " بل الذين كفروا في عزة وشقاق " ولم المخالفة ُ والحق بيّن ؟ ولم النفور والإسلام جاء لراحة البشرية والارتقاء بها من وهدة الضلال والقهر والفساد؟ وتأمل معي كلمة العزة وحدها دون كلمة الشقاق قد كانت تلتبس لولا أن كلمة الشقاق وضّحت المعنى المقصود بها ، وهو التعالي عن الحق والنأي عنه ممزوجين بالصلف والكبرياء مدعومين بالجحود والإنكار . فكلمة الشقاق ألقت بظلال المخالفة والرفض للتقوى والرشاد ، دليله في سورة البقرة " وإذا قيل له : اتق الله أخذتْه العزّة بالإثم " .
3- العاقل من يتعظ بغيره ، ويغتنم الفرص ، فلا يضيعها . أما الاتعاظ فلا يدخل قلوب الغافلين ، فهم يرون بعيونهم لا أبصارهم ، " لهم أعين لا يبصرون بها " يؤكد هذا أيضاً قوله تعالى " فإنها لا تعمى الأبصار ، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" وهم بهذه الصفة كالأنعام الضالّة بل هم أضل سبيلاً . " كم أهلكنا قبلهم من قرن " . إنهم يرون مصارع الأمم الغابرة فلا يرعوون ، ويمرون عليهم فلا يتعظون " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ، وبالليل أفلا تعقلون " وهم يسيرون في سفرهم وتجارتهم في بقايا آثار الأمم البائدة " إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم " ولا يتوسم سوى العاقل صاحب القلب النابض والعقل الحي . وأما اغتنام الفرص فللذكيّ الألمعيّ الذي يعلم أن الفرص عزيزة نادرة لا تأتي إلا بغتة ولا يقتنصها إلا الذي ينتظرها ويتوسّمها . لكنها تمر على الجاهل فلا يحس بها ، فإذا وقعت الواقعة نادى " واحسرتاه ، واتعاستاه " ،ويستغيث ، فلا صريخ . ويلقى صدى صوته ، ويسخر منه النابهون ، فلا فائدة ولا نجاة " ولات حين مناص"
4- صاحب العقيدة الحقة والدعوة الصادقة لا يمل من الدعوة إليها والدفاع عنها ، ولا يفتأ يعمل في سبيلها غير آبهٍ بالعوائق ، فالحياة عقيدة وجهاد " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون " لا بد من الصبر والمصابرة والثبات مع التحلي بتقوى الله تعالى . وفي هذه السورة نجد تداعياً من الكفار وحضاً على الثبات على عقيدتهم وهي العقيدة الزائغة إذ يقول أئمة الكفر والضلال: " امشوا واصبروا على آلهتكم " ويرفضون التخلي عنها ، وينبهون أتباعهم أن لا يستجيبوا لمن يريد أن يغير قناعاتهم ويزعزع إيمانهم بآلهتهم " ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ، إن هذا إلا اختلاق" فهم يتعجبون أن تكون الآلهة إلهاً واحداً ،وأن يرسل الإله نبياً بشراً واحداً منهم ولماذا يكون الرسول محمداً ؟ ولا يكون أحد كبراء القوم أصحاب المال والجاه ؟ ، فقالوا " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ؟ " روى اِبْن جَرِير أنَّ زعماء قريش قالوا : هَذا الَّذِي يَدعُونَا إِلَيهِ مُحَمَّد (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ التوحِيد لَشيْء يُريد بِهِ الشّرَف علَيكم والاستغناء ، وأَنْ يَكُون لَه منكم أَتبَاع ، وَلَسْنَا نُجِيبه إلى مراده ... فإذا كان أهل الضلال يبذلون جهدهم في الاحتفاظ بمبادئهم ، أفلا ينبغي على المؤمنين أن يتعاهدوا أنفسهم بالمثابرة والمصابرة على هذه الدعوة المباركة ؟ .
5- الكفر ملة واحدة ، وكلهم مهزومون أمام الحق بإذن الله تعالى . وفي هذه السورة بين الله تعالى أن قوم نوح وقوم فرعون وأن عاداً وثمود وأصحاب الأيكة حين كذبوا الرسل ذاقوا العذاب وأُبيدوا " إنْ كلّ إلا كذّب الرسل فحقّ عقابِ " ، وقريش إن كذّبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فستذوق المصير نفسه ، وهذا تهديد شديد اللهجة " وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فَواقٍ " إنها الصيحة الأولى والوحيدة القاضية المميتة فعلام هذا الاستكبار والجحود ؟! ومن سخيف عقول الكافرين أنهم يستعجلون العذاب تحدياً وتمادياً في العناد وجحوداً منهم ليوم المَعاد " وقالوا : ربنا ؛ عجّل لنا قطّنا قبل يوم الحساب " وهذا الطلب يتكرر دائماً دالاً على جهلهم بالمصير الأسود المرعب الذي ينتظرهم " يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " فإذا ما عاينوه رأي العين ندموا حيث لا ينفع الندم . وقد توعدهم الله عز وجل في هذه السورة فقال : " هذا وإن للطاغين لشر مآب " ماهو الشر الذي توعدتهم يا ربّ ؟ فيجيب سبحانه من عزيز قوي : " جهنم يصلونها ، فبئس المهاد " وتصور أخي كيف يعيش الكافر في النار إذا كانت الناربأشواكها ولهيبها المهد الذي يستريح عليه الكافر بعد تعبه وتجواله اللذين لا ينقطعان – نسأل الله العافية – " هذا فليذوقوه حميمٌ وغساقٌ ، وآخر من شكله أزواج " فما الحميم والغساق ، وما المثيل لهما من طعام وشراب للكافرين في جهنم ، والعياذ بالله
6- في القرآن الكريم تصوير مخيف لحياة المعذبين في النار ، طعامهم وشرابهم ، ولباسهم وحياتهم في النيران وبين أيدي زبانية العذاب . فتعال معي نعش بعيداً عنهم مطلعين عليهم ونحن في جنة الله – بإذن الله وفضله وكرمه – فهو الرحيم بعباده المؤمنين الرؤوف بهم ، عسانا ننأى بأنفسنا عن هذا المصير المرعب الذي يحتوي كل عاصٍ كفور.
شجرة الزقوم : وما أدراك ما شجرة الزقوم ! " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم " في قعر النار ، ومنه منشؤها ، ثم هي متفرعة في جهنم . وتصور هذه الشجرة التي تخالف كل أنواع الشجر الذي تلتهمه النار ، وهو وقود لها إلا هذه الشجرة ، فهي لا تنبت ولا تثمر إلا في النار .. فما ثمارها ؟ وماذا يشبه " طلعها " أي ثمرُها ؟، - وسمي طلعاً لطلوعه - " كأنه رؤوس الشياطين " فهل رأى أحدنا الشياطين ؟! لا لم يرهم ، فكيف شُـبـّه ثمر الزقوم بما لم نره ولم نعرفه؟! فالجواب أن نفوس الناس تتصور الشياطين برؤوسهم القبيحة المنفـّرة وإن لم يكونوا مرئيين لأنهم مثال كل خبث وسوء وقبح ، كما أن الطيبة والخير والجمال تتمثل في نفوس الناس بالملائكة . ألم يقل صواحب يوسف في وصف جماله حين طلع عليهم " ما هذا بشراً ، إنْ هذا إلاّ ملَك كريم ؟ " فهذا تشبيه تخييلي . والناس يتشاءمون من الغول وليست مرئية أو موجودة ، فيصفون قباحة الأسنان بها : مسنونة ٌ زرقٌ كأنياب الغول لما يُتصور من قبحها وشناعة منظرها . وبعض العرب تتهيّأ لهم الشياطين كالحيات ، لها رؤوس وأعراف ، وهي من أقبح الحيات وأخبثها وأخفها .
لما نزلت هذه الآية سخر فرعون هذه الأمة ، وقال : أتدرون ما الزقوم ؟ إن محمداً يعدنا أن في جهنم الزقوم ؛! إنما هو الثريد بالزبد والتمر . فبين الله خلاف ما قال .
" إن شجرة الزقوم طعام الأثيم " . كم يأكلون منها؟ أقليلاُ أم كثيراً على شدة مرارتها؟ " فإنهم لآكلون منها ، فمالئون منها البطون " يأكلون منها بشره لأنهم لا يصلون إليها متى شاءوا ، ولا يأتونها إلا جائعين ، والجائع حين يرى الأكل يهيم فيه أكان الأكل طيباً أم خبيثاً ، والزقوم طعامهم وفاكهتهم ،
وشجرة الزقوم التي خلقها الله تعالى في جهنم سماها القرآن " الشجرة الملعونة ..." فحين يأكلها أهل النار تغلي بطونهم كما يغلي الماء الحار ، وشبـّه ما يصير منها إلى بطونهم ب" المهل " : وهو النحاس المذاب .
الضريع طعامهم . " ليس لهم طعام إلا من ضريع " فما الضريع ؟ إنه نبت ذو شوك لاصق بالأرض ، لا تقربه دابّة ولا بهيمة ، ولا ترعاه ، وهو سمّ قاتل ، من أخبث الطعام وأشنعه ويسمى الشِّبرقَ حين يكون رطباً . وقال ابن عباس : إنه شجر من نار ، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها . وروى القرطبي في تفسيره عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك ، أشد مرارة من الصبر ، وأنتنُ من الجيفة ، وأحر من النار ، سماه الله ضريعاً " وقال بعض المفسرين : هو طعام لنتنه يضرعون عنده ويذلون ، وقيل : " إن الغسلين " ولا طعام إلا من غسلين " هو الضريع . هذا الضريع يأكله أهل النار فلا يشبعون " لا يُسمن ولا يُغني من جوع " فكأنه للعذاب فقط والعياذ بالله .
" ثم إنّ لهم عليها لشوباً من حميم " والشّوب : الخلط . والحميم : الماء الحار المغلي . .. قال المفسرون : يُمزج لهم الزقوم بالماء المغلي الذي يقطع الأمعاء ليجمع لهم بين مرارة الزقّوم وحرارة الحميم ، تغليظاً لعذابهم وتجديداً لبلائهم ،
أما شرابهم فهو بلية أخرى ، فماذا يشربون ؟ وما أثر الشرب على الجسم ؟! يقول تعالى " وسُقوا ماءً حميماً ، فقطّع أمعاءهم " ويشاب هذا الماء المغلي بغساق أعينهم وصديدٍ من قيحهم ودمائهم " هذا فليذوقوه ، حميم وغسّاق " .. إذا ليس هناك ماء يروي الظمأ بل حميم يُلهب الأجساد ، ويمزق الأمعاء " لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً " ..
ثم يأتي دور العذاب الشديد المتجدد " فالكفار ليس لهم مساكن كمساكن الدنيا بل يتنقلون كقطعان البهائم ، تساق بين أطباق النار السبعة ، فهل أسوأ من عيش البهائم ؟! بل إن البهائم في الدنيا لها حظائر لوقايتها من البرد والحر ، ويقدم لها ما يناسبها من الأعشاب وغيرها ، ويعتني بها أصحابها ، ويحافظون عليها فهي مالهم وتجارتهم وعليها تقوم حياتهم .
أما أصحاب النار فهم قطعان تساق إلى الزقوم لتأكل منه في مكان غير مكان إقامتهم ، ثم يُعادون إلى جهنم " ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم " والدليل على ذلك قوله تعالى " يطوفون بينها وبين حميم آن " فلِلأكل مكان ، وللشرب مكان ، فبعد أكلهم الزقوم يُدفع المجرمون إلى جهنم بقسوة ، ويجرّون إلى جهنم مهانين محتقرين " خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم " والعَتل أن يُجذب المعاقـَب جذباً عنيفاً دون رحمة . يجرونه إلى منتصف النار . وهناك يبدأ العذاب بفنونه " ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم يُصب من فوق رؤوسهم الحميم " وكأنه يصب في قارورة ، فيملؤها فماذ يحصل ؟! " يُصهر به ما في بطونهم " فيسلت ما في الجوف حتى يمرق من القدمين . وهل ينصهر ما في البطون فقط ؟ لا بل الجلود كذلك تحترق ، أو تُشوى " والجلود .." ، ثم يُعاد كما كان . فما هذا الطعام وما هذا الشراب ؟ وما هذه الحياة المقيتة ؟ نسأل الله العافية وحسن الختام .
روى القرطبي عن قتادة أن الآية الكريمة في سورة الدخان " ذق إنك أنت العزيز الكريم " نزلت في أبي جهل ، وكان قد قال : ما فيها – مكة – أعز مني ولا أكرم ، فلذلك قيل له تلك الآية السابقة . وقد التقى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو جهل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله أمرني أن أقول لك : أولى لك فأولى " قال أبو جهل : بأي شيء تهددني ! والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً ، إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه . فقتله الله يوم بدر وأذلّه ، وقيلت له هذه الآية على لسان سيد ملائكة العذاب " مالك " خازن النارالذي يضربه على رأسه بمقمع من حديد ، فيفتت رأسه عن دماغه ، فيجري دماغه على جسده ثم يصب فيه الماء المغلي ويقال له على سبيل السخرية والتوبيخ " ذق ؛ إنك أنت العزيز الكريم " .
أما لباس الكفار في جهنم فهو النار – والعياذ بالله منها – دليل ذلك قوله تعالى " والذين كفروا قُطّعت لهم ثياب من نار " فخيطت وسوّيت . وشُبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب وتأمل قوله تعالى " قُطّعتْ " وهو فعل ماض لما يستقبل من الزمان لأن الموعود منه محقق كالواقع لا محال ، ولعلها أعدت الآن ليلبسها أصحابها وقت دخولهم النار – اللهم عفوك ورحمتك - .. قال سعيد بن جبير : " من نار " من نحاس قد أذيب وهي السرابيل المذكورة في " قَطِران " وليس أحمى من النحاس إن أذيب . .. وقيل : إن النار حين تحيط بهم كإحاطة الثياب إذا لبسوها عليهم . صارت من هذا الوجه ثياباً . ألم يقل الله تعالى : " وجعلنا الليل لباساً " .
وتصوّر مقامع الحديد التي الذي تقهر وتذل ، وهي بيد الزبانية ملائكة العذاب وتسمى سياطاً كذلك " ولهم مقامع من حديد " وفي الحديث : " بيد كل ملك من خزنة جهنم مرزَبة لها شُعبتان ، فيَضرب – أي الملك - من أهل النار – "
ويحاول الكفار - حين تجيش النار بهم وتفور فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها – أن يفروا منها إلى الخارج ، فتعيدهم الخزنة إليها بالمقامع المصاحبة بالتوبيخ والسخرية " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها ، وذوقوا عذاب الحريق " .
فما هذه الحياة التي يعيشها الكافر العاصي ؟ يأكل النار ، ويشرب النار ، ويلبس النار ، ويعذب بالنار . .. وهل تستحق هذه الحياة الفانية القصيرة أن يفسق فيها الإنسان لحظاته وسويعاته ، ويتكبرَ ويتجبر ويكفرَ بربه ، فيغضبَ منه الجبار ، فيخلدَ في النار ؟!
اللهم نعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك ، لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك .
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها ، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا .
اللهم صل على عبدك ونبيك محمد ، وشفـّعه فينا .
اللهم لك الحمد حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك .
راجي عفوك ورضاك
الفقير إليك عبدك المحب
عثمان