إنهم لا يريدون
حارثة مجاهد ديرانية
لقد عشت منذ طفولتي وأنا أحمل الألم في قلبي من وضع الأمة المسلمة الذي لم أرض عنه يوماً، وكنت أغتذي بالحلم الذي ظل يراودني طول حياتي، ولولا أملي بتحقق هذا الحلم لكنت قعدت عن العمل عليه من زمن طويل، وهو أن أرى هذه الأمة تنهض من سباتها الطويل الذي عطلها عن اللحاق ببقية العالم الذي ظل يتحرك ونحن في أماكننا واقفون. لقد رأيت جسد هذه الأمة متعباً مثقلاً بالأمراض المقعدة الخبيثة فأردت شفاءها، وكنت وأنا أحاول بجهدي الضعيف أن أشارك غيري في تقديم العقارات المعالجة أفعل ذلك بنفسية من يظن بأمته الخير، فيحسب أن أفرادها غير راضين عن الوضع الأليم، صادقون في رغبتهم بالتغيير إلى الأحسن، ولكن حالت بهم دون ذلك ظروف ليست من إرادتهم. ثم مضى الزمان وتعلمت الحقيقة فتكشفت لي وأنا أرفضها في البدء كارهاً لها، ثم أرضى بها مذعناً مضطراً. وهل الحقيقة تتغير إذا لم نحبها أو كرهناها؟ أم أن الحقيقة هي هي سواء نظرنا إليها أم أشحنا بأبصارنا عنها؟ إني أستسمح السادة القراء من أجل لغة مقالي هذا التي خلت من كل مجاملة أو مداورة لطيفة، فهذا ليس وقت المجاملات، ولست أكتب مقالي هذا من أجل إسعاد الناس بالتفاؤلات الجميلة ولو أنها لا تقوم على أساس، ولكني هنا كالطبيب يريد أن يقع على حقيقة الداء قبل أن يصف الدواء. فهل يجامل الطبيب مريضه إذا ظن أن داءه سرطان خبيث يستدعي العلاج السريع بالأشعة، فيخبره بأنه كالحصان في أتم عافية لكيلا يزعج مزاج مريضه اللطيف! لا يا أعزائي، ما هكذا يصنع الطبيب العاقل النزيه. فاسمحوا لي بأن أكون اليوم مثل أخينا الطبيب، وأن أصنع معكم في مقالي هذا مثلما صنع هو مع مريضه حينما صارحه بالحقيقة، ثم مضى به سريعاً إلى غرف العلاج ليضع جهده في إنقاذه من دائه القاتل.
لقد قلت لكم إنني فتحت عيني على مشكلة هذه الأمة الحقيقية، فكنت أظنها أمة تريد هذا التغيير، ولكن لا تعرف كيف، أو تمنعها ظروف سياسية وغير سياسية من صنع ذلك التغيير. فهل تدرون ماذا اكتشفت؟ لقد اكتشفت في المدة الأخيرة حقيقة داء هذه الأمة، وهي أنها -على عدم رضى أفرادها عن وضعنا الراهن- لا يريد السواد الأعظم منهم أي تغيير! أوترونني فقدت عقلي حتى آتي بالمتناقضات؟ والجواب أنه لا تناقض! ولست في حاجة إلى الإطالة في شرح ذلك إذ يكفي للدلالة عليه مثال صغير، موظف في إدخال البيانات ذو أجر قليل لا يكف عن التذمر والشكوى مما هو فيه؛ عمل شاق طويل وأجر زهيد قليل، فهو لا يزال يرفع صوته بالشكوى والتذمر حتى جاء زوجته رزق من حيث لا يحتسبان، قريب لها مات وترك من المال ما يكفي لدراسة الزوج لكي يرفع دخله ومستوى معيشته، فلما دخل الكلية لم يعجبه أن الدراسة فيها تحتاج دراسة! وأن الدراسة تحتاج إلى بذل الجهد وإلى الكفاح. فلم يلبث فيها غير قليل حتى تركها فعاد إلى عمله السابق القديم، وعاد إلى ما كان فيه من كثرة الشكوى والتذمر! إن هذا المثال الصغير يوضح المسألة كلها. ففي البدء ليس عدم الرضى عن ظرف ما مكافئاً للرغبة الصادقة بتغيير ذلك الظرف، وهو أمر ليس ظاهراً في مثال صاحبنا مدخل البيانات فقط ولكن أمر بالغ الشيوع في الحياة الحقيقية، فانظروا فيمن حولكم تجدوا كثيراً من "أشباه" مدخل البيانات هذا بين معارفكم الأقربين والأبعدين. وسبب هذه المسألة وهذا التناقض (أي في أن يحمل كثير من الناس بغضاً لظرف وألا يريدوا في أعماق نفوسهم تغييره رغم ذلك)، سببه أن التغيير يحتاج إلى دفع ثمنه، ومن السهل على كل أحد أن يكره ظرفه الذي هو فيه، وأن يجد "أشياء" تصلح لأن يلقى باللوم عليها كالحظ والحكومة والناس وخلاف ذلك، ولكن ما كل واحد مستعد لدفع ثمن ذلك التغيير! هذه واحدة، وأما المسألة الأخرى فهي أن ارتفاع الصوت بالتجليب والشكوى والصياح لا يحمل أي برهان حقيقي على الرغبة الصادقة بالتغيير. فلا يغرنكم ارتفاع الأصوات بكثرة الصياح، ولا تنظروا إلى الأقوال ولكن إلى الفعال، فهنالك البرهان الحقيقي على ما يدعيه المدعون.
ولكن ما القصد من كل ذلك؟ ولماذا أقول هذا الكلام؟ انظروا إلى أمتنا الآن، إن كل فرد فيها مستعد لأن يلعن إسرائيل وكل من كان عوناً لإسرائيل. بالطبع، ولم لا؟ أليس السب واللعن "ببلاش"! لا أحد من المسلمين راض عن تخاذل المسلمين عن نصرة فلسطين المقهورة على إسرائيل الظالمة، ولكن من منهم يريد بصدق تغيير هذا الوضع؟ قلة قليلة فقط. سوف أذكركم بمقياسنا الجديد في الحكم على صدق الرغبة بالتغيير، فهو ليس ما نسمعه من الكلام ولو كثر، ولكن ما نراه من استعداد الناس لدفع ثمن التغيير، وذلك هو المقياس الحقيقي. انظروا الآن إلى المسلمين من حولكم، هل ترون أفرادهم دفعوا ما طلب منهم من ثمن من أجل التغيير المنشود، أم أن سوادهم الأعظم لم يتنازل عن دفع أي ثمن على الإطلاق وإن صغر، حتى على المستوى الفردي السهل البسيط[1]؟ دعونا ننظر إلى مثال من الحقيقة الواقعة يوضح لنا القضية. لقد انتشر في بلاد المسلمين مقهى معروف مشهور ذو إدارة فاسدة، متواطئة مع دولة إسرائيل تواطؤاً وقحاً صريحاً لا تخجل من أن تداريه أو تخفيه. فماذا صنع عامة المسلمين مع هذا المقهى الفاسد؟ سأقول لكم ماذا صنعوا معه، على علمي أني في غنى عن أقول لمن عرف ذلك المقهى منكم، لأننا رأينا عامة المسلمين أقبلوا على ذلك المقهى وأحبوه، وشجعوه ودفعوا إليه بأموالهم غير مكترثين ولا مبالين، رغم أن الكثرة الكاثرة منهم يدرون بحقيقة أمره وما ينبغي أن يكون بيننا وبينه! لم يكن فرد من أولئك المسلمين ممن زاروا ذلك المقهى الفاسد وشجعوه مستعداً لأن يحرم نفسه من حفنة من فناجين القهوة وجلسة على كراسي وكنبات توجد مثيلات لهن في كل مكان في سبيل قضية من أنبل القضايا وأعظمها شأناً، على الرغم من أن مقاطعة ذلك المتجر كان أهون الإيمان، فأنى لنا أن ننتظر من أمثال أولئك أقل دعم أو مساعدة في شفاء أمتنا العليلة؟
فليرني أي منكم برهاناً ينقض كلامي ويدلل على أن سواد هذه الأمة يريدون -حقاً وصدقاً- تغيير وضعنا البائس والتحول عنه إلى وضع أفضل وأحسن وأنهم يروننا البرهان الصادق على ذلك بدفع الثمن المطلوب، وسأمزق كل أوراق مقالتي هذه وأرمي بمزقها في ماء البحر!
آسف، إنني أعتذر إليكم من أجل جملتي الأخيرة التي بدت وكأن القصد منها إشعال نار الجدال، ولا والله ما ذلك أردت، ولكن أن نتجرد من عواطفنا لوهلة حتى نستوثق من حقيقة الداء قبل أن ننتقل إلى بحث العلاج، لأن لكل داء دواء، والطبيب الأحمق الذي يظن داء مريضه السرطان فيداويه بدوائه وحقيقة الداء تشابك في الأمعاء يكون ضر مريضه أكثر مما أفاد! وليس من الصواب أن يدفع حب بعضنا بعضاً إلى أن نرفض الاعتراف بحقيقة الداء إذا لم يلاق منا إعجاباً، بل أن نصدق به إن كان حقاً، لأن هذه هي الخطوة الأولى في الأخذ بأسباب الشفاء، فإذا لم نأخذ بها انقطعت كل السلسلة وهدمت ما بعدها فصار عديم النفع ولو وضعنا فيما يليها من جهدنا الكثير، لأن سلوك الطريق الخطأ لا يفضي بك إلا إلى نهاية عقيمة، حتى ولو اجتهدت في سيرك فيه. فلنتأكد إذن قبل أن نسلك الطريق ونوغل فيه أنّا قد اخترنا الصواب، وهذا يكافئ في حالتنا هذه أن نستثمر أوقاتنا في التأكد من حقيقة داء هذه الأمة، قبل أن نبدأ بصرف مواردنا الثمينة من أوقات وأموال في العمل على تقديم الدواء.
ورأيي الجريء الذي أطرحه في هذه المقالة إذن، هو أنني لم أعد أعتقد مؤخراً بأن مشكلة الأمة الحقيقية هي في افتقارها إلى حلول عملية تخرج بها من مأزقها الآني حتى نعطيها هذه الحلول[2]، ولكن المشكلة الأساسية هي أن نجعل الأمة "ترغب" بأن تخرج من مأزقها أساساً. كيف تريد أن تغير ناساً لا يريدون هذا التغيير (أي لأنهم لا يريدون أن يدفعوا ثمنه)؟ يجب عليك أن تعود مع أولئك الناس إلى الأساسيات وتعلمهم أن التغيير يعني تقديم الكثير من التضحيات، فإذا كانوا لا يريدون أن يقدموا تلك التضحيات (بل ولا حبة من خردل منها!) فليغلقوا أفواههم الشكّاءة إذن وليصمتوا، وليرتاحوا ويريحوا!!
نعم لقد رأينا المسلمين يهبون من قبل حين لذعت أعصابهم سياط العواطف، ولكن هذه الهبات العنيفة القصيرة لا تصلح علاجاً حقيقياً لأمتنا على المدى الطويل. إنها كحزمة القش الجاف الذي يحترق بسرعة ثم ينتهي وقوده فيخمد سريعاً كما اشتعل سريعاً. وهكذا هي العواطف! كم رأينا من هذه القومات التي قامها المسلمون فلم تعش آثارها طويلاً. إننا نحتاج إلى تغييرات صلبة دائمة في النفوس، والتلاعب بالعواطف لا يغير النفوس، ولا يصنع أكثر من أن يغلفها بأغلفة هشة مشتعلة سرعان ما تنهار. ولكن أنى لنا أن نحل هذه المشكلة؟ إن تعاون جزء ضخم من الأمة على تغيير ظرفهم السيء لهو أمر صعب عسير، وأما أن تحمل الناس على أن يريدوا ما لا يريدون فذلك ما يبدو أشبه بالمستحيل! إننا نتحدث هنا عن حاجة إلى تغيير نفوس الناس، وهذا أقرب إلى المعجزة، ولكني أرى حلاً لذلك، لولا أنه قد لا يعجب طائفة من الناس لأنه لا يثمر إلا على المدى البعيد، وكثير من الناس لا صبر لهم!
نعم، لعلي أن أكون نظرت اليوم إلى مشكلة رئيسة من مشكلات الأمة من منظار غير مألوف، غير أن الحل الذي أراه لذلك حل معروف قديم، ولكنه مهمل لا يعطى حقه من الاهتمام والتقدير. إنه موجود هنالك أمام أعين الناس، ولكنهم رغم ذلك لا ينظرون إليه ولا يرونه، يتشاغلون عن النظر إليه بما وراءه يبحثون بين ذلك عن تلك الحلول "السحرية" التي إذا صنعناها ثم أوينا إلى فرشنا من الليل استيقظنا في الصباح فإذا بها قد آتت أكلها وغيرت العالم. وهيهات أن يأتي التغيير بهذه السهولة! وفريق منهم يتشاغلون عنه (أي عن هذا الحل الجوهري) بإكثار الكلام في العقيدة وما اعتادوا أن يسموه "بالثوابت"، وكأن مشكلة المسلمين هي في عقائدهم حتى نذهب أوقاتنا في الحديث عن هذه العقائد! المشكلة هي رغبة غير صادقة وإدراك فقير الوضوح، وأما الحل فهو -فيما أرى- تربية النفوس. إن تربية النفوس -أيها السادة- ليست مطلوباً كمالياً لعملية الإصلاح، بل حجر أساس ضروري تماماً من أجل التغيير، ومن غيره لا تقوم كل جهود المصلحين من أجل الإصلاح والتغيير إلا على هواء. وتغيير النفوس هو ما صنعه الإسلام في أيامه الأولى قبل أن ينتقل إلى التغييرات العملية السلوكية، اذكروا مثلاً يوم دخل الصحابة بيوتهم بعد نزول آية تحريم الخمر ثم خرجوا وفي أيديهم ما حوته بيوتهم من الخمور فحطموا زجاجه على أبواب منازلهم حتى سالت الخمر في الطرقات. لم يطلب من الصحابة أن ينتهوا عن شرب الخمر فوراً كما تعرفون، ولكن مروا أولاً بمرحلة قبل ذلك عرضت فيها نفوسهم للتغيير، ربوا فيها على بغض الخمر كما ربوا على كره الرذائل كلها. هذا هو المنهج النبوي وهو الوسيلة الصحيحة للإصلاح. لقد قام الصحابة بالتضحية بواحدة من متعهم لما تخلصوا من الخمر، وما كانوا ليضحوا بها لولا قناعتهم الداخلية العميقة أنهم فازوا أكثر مما خسروا حينما قدموا تلك التضحية، وهذه هي النتيجة السحرية لتربية النفوس. على المسلمين إذن أن يدركوا من أعماق قلوبهم حقيقة ما نحن فيه الآن لكي يرفضوه رفض الأعزة للذل والضيم، وما سيصيرون عليه إن هم عادوا إلى الأخلاق الإسلامية وإن قاموا -عن رضى أنفس- بتقديم التضحيات الكثيرة الضرورية من أجل الإصلاح. ووفروا على أنفسكم واعلموا أن إخوتكم المسلمين لن يستجيبوا لكم طالما أنهم لا يعرفون ما يربحون ويخسرون، أو يعرفونه ولكن سلم أولوياتهم ورغباتهم مقلوب رأساً على عقب. وهذه هي الجملة المفتاحية في هذه المسألة: خاطبوا نفوس الناس قبل أن تخبروهم بما ينبغي أن يصنعوه من سلوك.
أيها السادة المصلحون، ثقوا أن لغة العواطف التي نراها رائجة في الخطاب الإصلاحي هذه الأيام، والتركيز على الرقائق واتباع المظاهر السلوكية عند السلف بدلاً من اتباع جواهر أخلاقهم السامية[3]، كل ذلك لن يثمر شيئاً كثيراً في تقديم أمتنا المتأخرة حين يقتصر جهدنا عليه، بل ويؤسفني أن أقول لكم بأن الانشغال بالسطح عوضاً عن الجوهر ما هو إلا هروب من التحدي الكبير الحقيقي إلى الحياة السهلة اللينة التي لا تعطي إلا قليلاً. إن الإصلاح يريد كفاحاً، وهل تغيير النفوس مسألة هينة؟ فالآن أمامكم تحد كبير يا أيها المصلحون، أكبر من كل ما عكفتم عليه في السنين الأخيرة. فليوفقكم الله في مشروعكم الكبير!
[1] وحديثي هو عما صنعه في قدرة كل فرد، ولا أقصد به الغايات الكبيرة التي لا تبلغ إلا بالتعاون وعمل الجماعة.
[2] بل أنا لم أزل أظن بشح هذه الحلول، ولكن قصدت أننا لم نصل إلى هذه المرحلة أصلاً حتى نبحث فيها، لأنا لم نزل في مرحلة أبكر منها تسبقها، فإذا جاوزناها بسلام بدأنا البحث في الخطوة التي تليها، أي في هذه الحلول.
[3] ويضرب أحد أقاربي المفكرين لذلك مثلاً التركيز -في بيئات إسلامية معينة- على أن يكون الثوب قصيراً بدلاً من الاهتمام بتربية الخلق نفسه: التواضع. فنشأ عن هذا المنهج الأعوج رجال أثوابهم عند أنصاف سوقهم ولكنهم استطاعوا -رغم ذلك- أن تكون لهم نفوس تمتلئ تعالياً وكبراً!