الشيخ محمد عبده

والاحتلال الانجليزي لمصر

إبراهيم النعمة

[email protected]

الشيخ محمد عبده مصلح اجتماعي، وعالم كبير من علماء مصر المحققين المجتهدين. ولد سنة 1849 وتوفي سنة 1905. أخذ عن جمال الدين الافغاني منهجه في اصلاح المجتمع والاصلاح الديني وخالفه في بعض الفروع، وقام بتطوير وتعميق اليقظة الاسلامية في التربية والتعليم، وتكوين دعاة للإسلام، دعا الى فتح باب الاجتهاد الذي قال بعض العلماء بسده منذ القرن الرابع الهجري، كما عمل على اصلاح الازهر، وابراز تشريعات الاسلام على قدرتها على مواجهة الحضارة الغربية، وأخذ المفيد من علومها، وكذلك قام بمقاومة الجمود الذي كان عليه كثير من علماء عصره بعقل مستنير، وواءم بين التراث الاسلامي الذي دبجه علماؤنا السابقون واحتياجات العصر، وعالج في لقاءآته وكلماته وكتاباته الكثير من قضايا امته، ومن ذلك: موقفه من احتلال الانجليز لمصر. وهذه مقتطفات من لقاءاتٍ تنص على موقف الامام من الاحتلال، وسيرى القارئ ان فيها ما فيها من الجرأة في قول الحق بوجوه الانجليز الذين احتلوا مصر. فحين ارسل الامام من قبل قيادة تنظيم (العروة الوثقى) الى (لندن) لعرض قضية الاحتلال الانجليزي لمصر على قادة المجتمع الانجليزي اولا، والرأي العام –بعد ذلك- ادلى بحديثه الى صحيفة (البول ميل جازيت) في 17/8/1884، وخاطب في حديثه الانجليز فقال:

(.. وإن عطفكم علينا كعطف الذئب على الحَمَل. ولقد قضيتم على عناصر الخير فينا؛ لكي تكون لكم من ذلك حجة للبقاء في بلادنا.. لمَ لا تغادرون بلادنا في الحال؟!.. شكونا من الاتراك؛ لانهم أجانب عن وطننا، وأردنا لبلادنا اصلاحاً وتقدما كتقدم الاوربيين في طريق الحرية، ولكننا الان نعلم ان هناك ما هو شرٌ من استبداد الحكام، وشر من ظلم الاتراك، وليس في مصر من بلغ به الظلم حداً يرجو معه مساعدتكم.. إن لنا اليكم رجاءاً واحداً، وهو ان تغادروا بلادنا حالا الى غير رجعة..)([1]).

ولما سأله مندوب الصحيفة: اننا اذا تركنا مصر، فان الفرنسيين سيحتلون بلادكم بدلا عنا، أجاب الشيخ،

(الفرنسيون يعرفون اننا لا نقبل حكمهم، كما لا نقبل حكمكم، نقاومهم كما قاومناكم. اننا لا نريد لوطننا حكاماً أجانب عنَّا كائنة ما كانت بلادهم، ونحن نعرف كيف نجعل حكمهم فينا امراً مستحيلاً، ومهما يكن الحال، فالفرنسيون لا يستطيعون ان يسيئوا الينا اكثر مما اسأتم انتم)([2]).

ولما سأله المندوب: اليس المهدي خطراً على بلادكم؟ أجاب الشيخ:

(لا خطر على مصر من حركة المهدي، انما الخطر من وجودكم انتم فينا، وانكم اذا غادرتم مصر، فالمهدي لن يرغب في الهجوم عليها ..)([3]).

ولما سأله المندوب: اليس السودانيون قوما متعصبين؟ اجاب الإمام:

( ليس السودانيون متعصبين، لكنهم اذا شعروا بالخطر الاجنبي يتهدد بلادهم ثاروا، واصبحوا حينئذٍ متعصبين. وما مثلهم في ذلك الا مثلكم انتم اذا رأيتم جيشاً من المسلمين في شوارع لندن ..)([4]).

المندوب: ولكن ماذا يكون مصير المسيحيين في مصر اذا تحقق جلاء جيوشنا عنها؟ فهلا تحدث فيها مذابح جديدة؟

الشيخ محمد عبده: لم تحدث في مصر مذابح، اللهم الا المذابح التي سببها الانجليز انفسهم. وإن وصول اسطولكم الى الاسكندرية هو الذي دفع الغوغاء الى الشغب، وإن انزالكم جيوشكم بها هو سبب حدوث الاضطراب في طنطا. لم يقتل من المسيحيين احد قبل حضوركم الى مصر، ولن يحدث من ذلك شئ  بعد جلائكم؛ فلا نزاع بيننا وبين المسيحيين طالما عاشوا في ظل قوانيننا، ولم يتدخلوا في شؤون حكومتنا)([5]).

المندوب: إنَّ تِسعين في المائة من الفلاحين يريدون حكومة مسيحية؛ تخفف عنهم ثقل الضرائب ويفضلونها على حكومة اسلامية تفرضها عليهم.

الشيخ محمد عبده: (تلك اوهام، لقد اثقِلت ظهور الفلاحين بالضرائب، لكنهم في الوقت الحاضر لا يشكون منها، وانما يفكرون قبل كل شئ في تخليص بلادهم من حكم الاجنبي، بل انهم ليفضلون ان يدفعوا اكثر مما يدفعون لتحقيق هذه الغاية. اني اعلم ذلك، فاني على اتصال بالمراسلين في جهات كثيرة في مصر، يمكنكم اذن ان تلغوا جميع الضرائب، فلن يحمدوا لكم هذا الصنيع)([6]).

رحم الله الامام الشيخ محمد عبده، فلقد قارع الاحتلال الانجليزي لمصر بكل ما يستطيعه. وهذا هو شأن العلماء الاعلام على مر الاجيال في كل زمان ومكان. فلا نعجب اذا علمنا ان عدو المحتل الاول هم العلماء العاملون، وان اول عمل قام به المحتل من قبل هو اغلاق المدارس الاسلامية كما حدث في كل بلد من البلاد العربية والاسلامية التي احتلت من قبل المستعمرين، وان الدائرة الان تدور على المناهج الاسلامية التي تدرَّسُ في البلاد العربية والاسلامية.. انه المحتل، لا يتضايق من شئ كتضايقه من العلماء الذين ينفخون في الامة روح مقاومته بالسيف والسنان، او الحجة والبيان.

ونختم حديثنا بهذه المقتطفات مما دبجه يراع الشهيد عبد القادر عودة-رحمه الله-، مبينا موقف الاسلام من الاستعمار، وما يجب على المسلمين تجاهه فقال:

(الاسلام يحِّرم على المسلم ان يخضع لغير المسلم، ويوجب على المسلم جهاد الغزاة المستعمرين وقتالهم وقتلهم حتى يخرجوا من بلاد الاسلام).

(والاسلام يبيح للمسلم دم المستعمر وماله؛ لأن المستعمر ليس الا حربياً معتدياً، فكل ما يسفكه المسلمون من دم المستعمرين، انما هو دم مباح، وكل ما يأخذونه من اموالهم انما هو مال مباح، وكل ذلك اذا ما اتاه المسلمون بنية خالصة انما هو عمل يتقربون به الى الله).

(والاسلام يحرم على المسلم موالاة المستعمر ومودته، ويوجب عليه مقته وكراهته، فكيف يعيش الاستعمار بين قوم لا يوالونه ولا يُوادّونه، بل يكرهونه ويَمقُتونَه).

(والاسلام لا يجيز للمسلمين ان يعاهدوا المستعمرين او يهادنوهم ما دام في المسلمين قوة، فهي اذن الحرب المشبوبة الدائمة ما دام الاستعمار، او هي الهدنة الموقوتة التي لا تنتهي الا بالقتال).

(والاسلام يجيز للمسلمين في حالة ضعفهم ان يهادنوا المستعمرين هدنة مؤقتة قصيرة، على ان يعدوا ويستعدوا، فاذا خافوا الاضرار بالمسلمين، او خشوا خيانة المستعمرين، نبذوا اليهم عهدهم، وعادوا الى حربهم بعد انذارهم، فأحكام الاسلام تمنع من مسالمة المستعمرين الا الى اجل، وتجيز نقض الهدنة والعود الى الحرب، كلما اقتضت ذلك مصلحة المسلمين والاسلام)([7]).

               

[1])) الاعمال الكاملة للإمام الشيخ محممد عبده 1/703-704 تحقيق الدكتور محمد عمارة. الطبعة الثانية 1427-2006 دار الشروق، بيروت

[2]span>)) المصدر نفسه 1/704

[3])) المصدر نفسه 1/704

[4])) المصدر نفسه 1/704

[5])) المصدر نفسه 1/705

[6])) المصدر نفسه 1/707

[7])) ) الاسلام واوضاعنا القانونية تأليف: عبد القادر عودة ص101-102، مطبعة: دار الكتاب العربي- القاهرة / 1951