كيف ننمّي تذوّقَ الطفل للغة العربيـة الفصيحة
كيف ننمّي تذوّقَ الطفل
للغة العربيـة الفصيحة
وقدرتَه على استخدامها
د.عدنان علي رضا النحوي
[email protected]
اللغة العربية الفصحى محبّبة للنفس ،
سهلة على التقبّل ، ميسّرة للتذوُّق والتعلُّم والاستخدام . إلا أن واقعنا اليوم
وما يمرّ به المسلمون من ضعف وهوان ، ومع امتداد اللغات الأجنبية واللغة العامية في
معظم المجتمعات الإسلامية ، جعل صعوبات أمام الطفل والشباب ، أمام أبناء المسلمين
بصفة عامة ، في تذوقهم أو دراستهم للغة العربية .
إن كلّ لغة تحتاج من أجل تعلُّم
أبنائها لها إِلى بيئة يتلقّي الطفل فيها لغته منذ صغره ، منذ طفولته . هذه البيئة
المطلوبة غير متوافرة في واقعنا اليوم بالنسبة للغة العربية ، يضاف إلى ذلك أن من
بين أبنائنا من تخلى عن اللغة العربية مدّعياً صعوبتها ادعاءً لا يقوم على أساس .
ملايين من المسلمين في الأرض لا يعرفون
اللغة العربية ، أصبحت لغتهم الرسمية لغة أخرى غير العربية . مما يوجد صعوبة كبيرة
في نشر اللغة العربية . يضاف إلى ذلك وجود قوى شديدة تحارب الإسلام ولغته بين
المسلمين ، وقامت دعوات كثيرة للتخلّي عن العربية ، أو لتغيير حروفها ، أو لتغيير
حركاتها . قوى كثيرة تعمل مزوّدة بالعدة والعلم والنهج .
في هذا الجو نريد أن ننشر اللغة
العربيّة ونحبّبها إلى المسلمين جميعاً ، وخاصة إلى أطفال المسلمين ، أمام تحدّيات
كثيرة جداً .
ولكن الذي يسهّل الأمر أن هذه اللغة هي
لغة القرآن ، لغة الذكر الذي تعهد الله بحفظه :
(
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )
[
الحجر :9]
ومما يسهل الأمر كذلك ارتباط هذه اللغة
العظيمة بالإيمان ، بالإسلام ، والقلوب المؤمنة مازالت تخفق بإيمانها وإن كانت
ألسنتها عجمت . ومازال هناك مؤمنون يعملون ويجاهدون .
ولكن لا بدَّ أن تلتقي الجهـود على هذا
الأمر وعلى غيره من قضايا الإسلام ، بدلاً من أن يظل كلٌّ يعمل بمفرده ، فتتناثر
الجهود ويضعف أثرها .
وكذلك يجب أن يأخذ العملُ صورة الخطة
والنهج حتى يتضاعف أثره وعطاؤه ، وأن يكون النهج بصورته العامة واحداً لدى الجميع .
ولا نستطيع هنا في هذه العجالة إلا أن نُعْطِي ملامح عامة ، حتى تتم الدراسات
المفصّلة .
إن تذوّق الطفل للغة العربية الفصيحة
وقدرته على استخدامها يعتمد على عوامل رئيسة يمكن إيجازها بما يلي :
المربي
وقدرته وما يحمل من خصائص تفيد في هذا الهدف ، ومدى التزامه باستخدام اللغة العربية
الفصيحة ، أو المؤسسات وأمثالها .
البيئة
ومدى توفيرها للجو الصالح وعدم إثارتها عقبات .
طبيعة اللغة العربية
وخصائصها التي يمكن الاستفادة منها لهذه الغاية .
الطفل طبيعته وخصائصه
التي يمكن الاستفادة منها في هذا السبيل .
أما المربي فلا بدَّ أن يكـون هو نفسه
ملتزماً باستخدام اللغة العربية الصحيحة ، ويملك القدرة على التوجيه والتربية
والبناء ، أو أن يكون نال تدريبات وافية على هذه المهمة .
والبيئة هي العامل المؤثِّر بصورة
مباشرة وغير مباشرة على تنمية هذا التذوق للغة العربية وعلى استخدامها . والبيئة قد
تكون عائقاً أمام هذا الهدف ، حين تغزوها اللغات العامية وتسود فيها ، أو اللغات
الأجنبية . ونقصد بالبيئة : البيت والأسرة ، والمدرسة والمربّين ، والمجتمع
ومؤسساته الثقافية والإعلامية والتربوية .
ولقد كان بعض الخلفاء المسلمين ،
وبخاصة في العصر الأموي ، يرسلون أولادهم إِلى أجواء القبائل العربية حيث تكون
اللغة أصفى ، ويبقون فيها مدة يتلقون اللغة تلقّيا نقيّاً حتى تصبح طبيعة لهم . ذلك
لأنهم أدركوا دور البيئة في الترغيب باللغة وتعلمها . فلا بُدَّ من توفير البيئة
الصالحة لتنمية تذوّق الطفل للغة العربية الفصحى ، ولا بد من توفير التعليم مع
الرعاية والتوجيه .
البيت والأسرة هو الحضن الأول للطفل ،
سواءً أكان ذلك في مرحلة الحمل أَم الولادة أَم في سائر مراحل نمو الطفل التي سنأتي
على ذكرها . ويتحمل الوالدان أكبر مسؤولية في تربية الطفل وتعهّده ونشأته . وبذلك
جاء حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول
صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة وأبواه يهوّدانه أو
ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون منها من جدعاء
" [ رواه الشيخان وأبو داود ](1)
فنستفيد من هذا الحديث الشريف عدة
فوائد رئيسة : مسؤولية الوالدين ، الفطرة التي فطر الله الناس جميعاً عليها ،
وأهمية دورها في التربية والبناء ، وما أودع الله فيها من قدرات وغرائز . ولنتدبر
قوله سبحانه وتعالى :
(
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )
[ الروم :30ـ32]
فالفطرة تكون في الطفل المولود سليمة
غنية بما أودع الله فيها من قدرات تأخذ بالنمو على سنن ربانية ، وأهم هذه القدرات :
قوة التفكير ، العاطفة ، الغرائز المختلفة ، وقبل ذلك كله الإيمان والتوحيد كأنه
النبع الذي يروي جميع القوى والغرائز في الفطرة لتؤدِّي كل قوة أو غريزة دورها الذي
خُلِقَتْ له ، ما دامت الفطرة سليمة لم تنحرف ولم تلوّث ولم تفسد .
وسلامة الفطرة وحمايتها من الانحراف أو
التلوث أو الفساد هي الحق الأول للإنسان ، الحق الذي أهملته جميع المؤسسات الدولية
أو القطرية لحقوق الإنسان .
وفي جو الأسرة بين الوالدين وسائر
أفراد الأسرة يتلقَّى الطفل أَول غذاء لفطرته وقدراته . وأول حاسة تنشط عند الطفل
هي حاسة السمع . إنها تنشط فيه وهو جنين في بطن أمه ، ويتأثر بكل ما يدخل سمعه في
هذا الجو . ولذلك كان من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم أن نبَّهَنا إلى أهمية
حاسة السمع ، وذلك بالتوصية بالأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى
:
فعن الحسين بن علي رضي الله عنهما عن
الرسول صلى الله عليه وسلم قال : من ولد له ولد فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه
اليسرى لم تضره أم الصبيان "(2)
وأم الصبيان هي التابعة من الجن . فالصوت يؤثر في المولود ولو كان لا يعي معنى
الكلام .
وعند الموت كان أمر الرسول صلى الله
عليه وسلم أن يُلقّن المحتضر لا إله إلا الله . فعن أبي سعيد وأبي هريرة
وعائشة رضي الله عنهم وعن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " لقّنوا موتاكم : لا
إله إلا الله " [ رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي ](3)
وفي حياة المؤمن تظل الشهادتان تتردّدان على لسانه وفي قلبه . فهي السمة الأولى
التي تظل ترافق المسلم منذ ولادته حتى وفاته ، مادام مسلماً مؤمناً .
فحاسة السمع ونشاطها يمكن الاستفادة
منها في ترغيب الطفل باللغة العربية وبتغذية الإيمان في قلبه . فالصوت يترك أثره في
الجنين وفي الطفل بطريقة ربّانية لا يدركها العلم حتى اليوم .
تقول د. آريان آيزينبرغ وزميلتاها في
كتابهنّ : " ماذا تتوقع عندما تنتظر الجنين " ، إن حاسة السمع عند الجنين تكون قد
تطورت تطوراً كبيراً مع نهاية المرحلة الثانية من الحمل أو بداية المرحلة الثالثة .
فيصبح أن الأجنّة يسمعون ما يدور من أحاديث أو قراءات في البيت ، أو عند الأصدقاء .
ويعتقد بعض الباحثين المختصين في هذا العلم أنه يمكن إثارة الجنين قبل ولادته ليكون
مولوداً متميزاً " .
فالبيت والأسرة هما الحضن الأول للطفل
، للإنسان ، وما يناله في هذه المرحلة المبكرة يكون أَثبت في القلب مما قد يناله في
سنوات متأخرة من عمره . وصدق المثل القائل : " العلم في الصغر كالنقش في الحجر " !
فلا بد من الحرص على توفير الجو الصالح في البيت والأسرة . وإنها مسؤولية الأمة
كلها والعلماء والدعاة والدولة عن العمل لبناء هذا الجو الإيماني في الأسرة المسلمة
. ومن هذا الجو يتوافر كثير من العوامل التي تعين على بناء تذوق الطفل للغة العربية
الفصيحة وتنميتها ، وتنمية قدرته على استخدامها .
والمدرسة جزء رئيس من البيئة كذلك ،
حيث تتواصل عملية البناء للطفل بين البيت والمعهد . فتكون مسؤولية المربين في
المدارس أن يتقنوا التحدّث بالفصحى ليتكونّ الجو المناسب الذي يرعى ويربى في الطفل
تذوقه للفصحى واستخدامه لها .
ثم يأَتي المسجد حيث يغلب أن لا يسمع
المسلم في المسجد إلا الفصحى ، سواءً أكان ذلك بالقرآن الكريم أم الدروس التي تعطى
فيه ، أم خطبة الجمعة أم غيرها من الأنشطة الإيمانية ، وبذلك يرتبط البيت والمعهد
والمسجد برباط قوي بحيث تتعاون هذه المراكز الثلاثة فيما بينها على تحقيق الهدف .
وتمتد ميادين البيئة بعد ذلك إلى ما
يشاهده الطفل على التلفاز وسائر وسائل الإعلام ، وما يسمعه من أقربائه وزملائه في
حياتهم العامة .
ولكن هذه الميادين : البيت ، المدرسة ،
المسجد ، المجتمع ، تكون كلها مسؤولية أُمَّةٍ واحدة ، تحمل رسالة واحدة ، رسالة
الإسلام ، وتجاهد من أجله ، فيصبح غذاء الطفل في جميع مراحل نموِّه غذاء صالحاً ،
بالفصحى والإيمان والخلق وغير ذلك . وفي هذه الميادين كلها ، يكون هنالك المربي
المسؤول .
ونودّ أن نشير هنا إلى قضية رئيسة ذلك
أن المسؤولية لا تقف عند حدود المسؤولية المادية الدنيوية ، ولكنها مسؤولية ممتدة
حتى الدار الآخرة ، بين يدي الله سبحانه وتعالى ، حين يحاسب كل إنسان عن عمله ونيته
.
والعامل الآخر الذي يساعد على تنمية
التذوق للفصحى هو طبيعة اللغة العربية نفسها ، وعظمة خصائصها ، وأعتقد أن اللغة
العربية وكذلك سائر اللغات انبثقت في أول مراحل تكوينها من لغـة آدم عليه السلام ،
اللغة التي علمه الله إياها :
(
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا .... )
[
البقرة :31]
وخاطب الله آدم عليه السلام باللغة
التي علّمه إياها ، وخاطب آدم عليه السلام ربـه بهذه اللغة . ثم تعلَّمها أولاده
الذين تفرّقوا في الأرض باتجاهات مختلفة ، ومع كل اتجاه أخذت اللغة تنمو وتتطور في
تاريخ طويل حتى أخذت الصـورة التي نجد اللغة عليها اليوم ، لغات مختلفة ، كان
اختلافها آية من آيات الله :
(
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ )
[ الروم :22]
فهذه اللغات آية من آيات الله ونعمة من
نعمه . فبها يتم التخاطب وتتعارف الشعوب ، وتقضى الحاجات . وللغة بصورة عامة أثرها
الكبير في عملية التفكير لدى الإنسان ، حتى إن بعض العلماء المختصين ، اعتبروا
اللغة هي التفكير ، وبعضهم اعتبرها وعاء التفكير . ويزداد أثر اللغة في التفكير
كلما كانت اللغة أغنى وأقوى و أكثر نمُوّاً .
وكان من فضل الله كذلك على الإنسان أن
علمه البيان كما علمه القرآن :
(
الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْأِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ
)
[ الرحمن :1ـ4 ]
وإذا كان لكل لغة نعرفها اليوم تاريخ
خاص تطورت من خلاله ، فللغة العربية تاريخ خاص متميز . فإذا قلنا إن أول أمرها كان
مثل سائر اللغات انبثقت من لغة آدم عليه السلام . ثم تطورت حتى أصبحت اللغة العربية
الفصحى على لسان إسماعيل عليه السلام :
فعن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن
الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " أول من فُتِق لسانه بالعربية المبيَّنة
إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة " .
[ الشيرازي في الألقاب ](4)
ولقد كشفت الآثار أن لغة النبي صالح
عليه السلام قريبة جداً من اللغة العربية الفصحى في حروفها وقواعدها ، مما يوحي أن
اللغة العربية في كلّ مرحلة من مراحل نموّها كانت لغة نبيّ من الأنبياء ولغة
الرسالة الربانية . وكأنها لغة النبوة في مسارها الطويل ، حتى إذا اكتمل نضجها نزل
بها الوحي الكريم قرآناً عربياً غير ذي عوج . فزادت بركتها وزاد فضلها ، وأصبحت
بميزان الإسلام والإيمان اللغة المتميزة بخصائص كثيرة من حيث الجمال ، والجرس ،
والبيان ، والفصاحة ، وحتى ميَّزها الله في كتابه الكريم وأثنى عليها .
(
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )
[
فصلت :3]
وآيات أخرى كثيرة في كتاب الله كشفت
عظمة هذه اللغة التي اختارها الله سبحانه وتعالى وفضلها على لغات العالم كله .
فتصبح هذه اللغة العربية منذ نشأتها قديماً وحتى اليوم لغة النبوّة الممتدة في
التاريخ مع كل مرحلة من مراحل نموها ، على الشكل الذي كانت عليه في كل مرحلة .
ولما فرض الله ورسوله طلب العلم وبخاصة
من القرآن الكريم بلغته العربية الفصيحة أصبحت لغةُ القرآن الكريم ، لغةَ الإسلام ،
لغةَ الرسالة الخاتمة التي جاءت للعالمين ، للناس كافة :
(
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )
[
الأنبياء :107]
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )
[
سبأ:28]
فهي أصبحت بذلك لغة كلّ مسلم آمن بالله
واليوم الآخر ، وهي بذلك لغة الفطرة التي فطر الله الناس عليها . فهي رحمة من الله
،وهي بذلك كله لغة الإنسان تمتد مع امتداد الدعوة والبلاغ . وبذلك يكون تقبّلها
وتذوّقها سهلاً عند الطفل الذي سلمت فطرته . وهذه خاصة رئيسة لتساعد على تنمية تذوق
الفصحى عند الطفل في جميع مراحل نموه .
فلم تعد اللغة العربية لغة قوم محدودين
، ولكنها أصبحت لغة الرسالة الممتدة للبشرية كلها .
وإذا استعرضنا جميع الآيات الكريمة
التي تحدَّثَتْ عن القرآن الكريم ولغته العربية ، لوجدنا أن اللغة العربية من خلال
كتاب الله قد ارتبطت بميادين الحياة المختلفة ، مما جعلها ميسّرة في كل ميدان : فهي
مرتبطة أولاً بالقرآن الكريم ووجوب تدبره ، بالتشريع والأحكام ، بالإيمان والتوحيد
، بالتقوى ، بالدعوة والبلاغ ، بالتذكير ، بالبشرى ، بالنذر ، بالعقل بالتفكير ،
وبكل مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للناس في كتابه الكريم :
(وَلَقَدْ
ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ . قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
)
[ الزمر : 28،27 ]
فحتى ننمِّي عند الطفل تذوّق اللغة
العربية يجب أن ننمِّي معها خصائص الإيمان والتوحيد ، ونحمي فطرته ونغذِّي الطفل
بلغة القرآن ، فذلك كله يُنمي تذوقه للغة العربية الفصيحة ، وينمّي قدرته على
استخدامها ، وينمي إيمانه ، ويوفّر الحوافز الإيمانية لدى المسلم .
وعندما انطلق المسلمون بفتوحاتهم ،
أصبحت اللغة العربية لغة هذه الشعوب كلها ، وتقبلوها بيسر وسهولة مع تقبّل الإسلام
والإيمان . وأصبح من أبناء هذه الشعوب علماء في اللغة العربية وأدباء وشعراء .
ولقد تحدّث عن عظمة اللغة العربية
كثيرون من المسلمين ومن غير المسلمين ، حديث قناعة ، وحجّةٍ وبيان .
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول
: " تعلّموا العربية فإنها تُثَبِّتُ العقل وتزيد المروءة "
(5)
وهذا نابع من ارتباطها بالفطرة والإيمان ، ومن فضل الله على الناس وعلى اللغة
العربية . وقال عمـر بن الخطاب أيضاً : " تعلّموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض
"(6)
وقال " تعلموا إِعراب القرآن كما تعلمون حفظه "(7)
. وكأنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسم نهجاً ووضع خطة لتعلُّم العربية وترغيبها
إلى النفوس .
ومرّ عمر بن الخطاب على قومٍ يسيئون
الرمي فقرّعهم . فقالوا : إنا قوم متعلمين . فأعرض مغضباً وقال : لخطؤكم في لسانكم
أشدُّ عليَّ من خطئِكم في رميكم . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : رحم
الله امرءاً أصلح من لسانه " ! ولحن رجل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : " علّموا أخاكم " .
ورويَ أن أبا عمرو بن العلاء كان يقـول
: " لعلمُ العربيّـة هو الدين بعينه "(8)
وهذه الخصائص كلها تسهل تنمية تذوق
الفصحى عند الأطفال والشباب وأبناء الأمة المسلمة جميعاً .
ومن الضروري أن نشير هنا إِلى أنه لا
يحسن أن نعالج قضية تذوق الطفل للفصحى كقضية مستقلة معزولة . كلا ! إنها جزء لا
يتجزّأ من رسالة الإسلام الخاتمة ودعوته التي يجب أن تمضي في الأرض إلى الناس كافة
. فمن الأهداف الربانية الأولى هي تبليغ دعوة الله إلى الناس كافة كما أنزلت على
محمد صلى الله عليه وسلم وتعهّدهم عليها ، لتحقّق بذلك جوهر العبادة وغاية الأمانة
وحقيقة الخلافة وضرورة عمارة الأرض بحضارة الإيمان .
فقضية اللغة العربية قضية مرتبطة
بالإسلام وبأمة الإسلام ، وبمدى قوتها وتشاطها وامتدادها .
وفي جميع هذه الحالات لا بد من توافر
الطاقة القادرة على تحفيز هذه المهمة والقيام بها . وتُطْلَقُ على هذه الطاقة بصفة
عامة كلمة : " المربي " ! الذي يكون حيناً الوالدين ، وحيناً آخر الأساتذة المدرسين
، وحينا آخر المؤسسات المتخصصة من ناحية والمؤسسات العامة من ناحية أخرى ، إذ يجب
على الجميع تبني موضوع اللغة العربية ونشرها وحمايتها وتغذية الأطفال بها ، وتنمية
تذوقها لدى الأطفال والشباب ولدى الأمة كلها .
وهذه الجهود يجب أن تلتقي كلها في نهج
جامع وخطة متكاملة ، يحمل ذلك كله الوسائل والأساليب وصدق النيّة وإخلاصها لله
سبحانه وتعالى .
والخطوة الأولى هي توفير البيئة
الصالحة التي توفّر الفرصة لتحقيق هذا الهدف الكريم . البيئة في البيت والمدرسة
والمسجد ، ثم توفير الطاقات المؤمنة المدرّبة القادرة على حسن العطاء
والتربية والبناء ، والأرحام والأصدقاء جزء من البيئة التي يجب الحرص على حسن
توفيرها .
ثم تبدأ الاستفادة من خصائص الطفل
وخاصة حاسة السمع كما ذكرنا ، والاستفادة قدر المستطاع من مرحلة الجنين
والولادة والطفولة الأولى .
وتبذل الجهود المنهجيّة للاستفادة من
خصائص اللغة العربية كما ذكرنا سابقاً ، وتسخيرها من أجل هذا الهدف في جميع
مراحل الطفولة .
ويجب غرس الإيمان والتوحيد كخطوة رئيسة
في بناء الطفولة ، من مرحلة الجنين والولادة وسائر المراحل ، حتى يوفّر هذا العامل
الحافز القوي لتذوق العربية الفصحى ودراستها واستخدامها .
كما يجب توفير البرامج والمناهج
والوسائل المحدّدة لكل مرحلة من مراحل الطفولة وأول هذه البرامج توفير الفرصة
لسَماع القرآن الكريم يُتلى ، وسماع بعض الأحاديث النبوية ، وسماع قاعدة بسيطة من
قواعد النحو ، ثلاثة أشياء تظل متماسكة : القرآن الكريم ، الأحاديث النبوية الشريفة
، اللغة العربية . ثم ينمو هذا المنهج مع مراحل نمو الطفل حتى يشمل التلاوة اليومية
للقرآن الكريم يقوم بها الطفل نفسه على حسب مرحلة نموه ، ثم الحفظ المنهجي للقرآن
الكريم ومراجعتِه وتعهّده ، وحفظ أو دراسة حديث شريف ، ويعلّم قاعدة مبسطة من قواعد
النحو بأسلوب سهل مشوق . لتصبح التلاوة اليومية والحفظ والتعهد والحديث الشريف
وقواعد النحو منهجاً ثابتاً في حياة المسلم صحبة عمر وحياة ، لا تتوقف حتى يلقى
المسلم ربّه .
وفي مرحلة مناسبة تُختار القصائد من
الشعر السهل القوي ، ليُدرس بعضها ويُحفظ بعضها على منهج محدد وخطة مدروسة .
وفي مرحلة أخرى ، يُعطى الطفل فرصة
التحدّث بالعربية الفصحى بموضوع يختاره هو أو يُختار له ، ويُتجاوَز في المراحل
الأولى عن بعض الأخطاء ، ويُعالج بعضها الآخر ، ويدور حوار بالعربية الفصحى بين
المربي والطفل . وتكون هذه الخطوة يومية لمدة ساعة أو ساعتين حسب قدرة الطفل ، وحسب
الخطة الموضوعة . ويستفاد في هذه المراحل من خصائص الطفولة وأهمها الفطرة وما أودع
الله فيها من قدرات ومواهب ورغبات .
وفي مرحلة مناسبة ، تصاغ مسرحيّات
قصيرة بالعربية الفصحى ، يقوم بها الأطفال أنفسهم بعد أن يدرّبوا عليها . كما يمكن
أن تنظم حفلات موسمية يتحدّث فيها الأطفال بما يختارونه هم من أدب أو شعر أو
موضوعات عامة ، كلُّ على قدر جهده ووسعه وميوله .
ونؤكد أنه مع الاعتماد على السماع
والتدريب على التحدث بالفصحى ، فلا بد أن يصاحب ذلك دراسة قواعد اللغة العربية ،
نحوها وصرفها وبيانها ، بأسلوب مشوّق سهل ، ليمتدَّ هذا العمل في مراحل الطفولة
كلها . ولا ننسى قول عمر رضي الله عنه : " تعلّموا النحو كما تعلمون السنن والفرائض
" ، وقوله : " تعلموا إعراب القرآن كما تعلمون حفظه " ولا ننسى قول أبي عمرو بن
العلاء : " لعلمُ العربية هو الدين نفسه " . ويزداد تعليم القواعد بأسلوب
مشوق مع نمو الطفل ونمو مداركه .
وفي مرحلة مناسبة يشجّع الطفل على
المطالعة الذاتية من كتب تناسب سنه مثل القصص والسيرة النبوية ، والشعر ، والخطب ،
وغير ذلك .
ومن الوسائل المشوّقة للطفل استخدام
الصور الملوّنة ، والرسوم الجميلة ، والأناشيد المفيدة ، والمرح يتخلل النشاط كله .
ويجب الحرص على إبعاد المصادر المفسدة
، وإحاطة الطفل بالجو الطاهر المشرق الذي يرعى فطرته ويغذيها بكل ما هو مفيد ، حتى
تظل الفطرة عاملاً رئيساً مساعداً في عملية التربية والبناء.
(1)
صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم : 5784 .
(2)
رواه النووي في كتاب ابن السنى .
(3)
صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم :5148 .
(4)
صحيح الجامع الصغير وزيادته (رقم 2581) .
(5)
أخبار عمر : ص :282 .
(6)
البيان والتبيين : ص: 171 .
(7)
أخبار عمر : ص : 282 .
(8)
ياقوت الحموي ـ معجم الأدباء : ص : 10 .