في ظلال سدرة المنتهى
د. نعيم محمد عبد الغني
ارتبط ذكر سدر ة المنتهى بذكرى الإسراء والمعراج التي نتذاكرها هذه الأيام، وهذه السدرة قال عنها الله تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) النجم 16، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحكي عن رحلة الإسراء فيقول ضمن هذا الوصف الطويل الذي يرويه البخاري في صحيحه: (ثم انطلق بي حتى أتي بي سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي ثم أخلت الجنة فإذا هي جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك) والجنابذ معناها ما ارتفع من الأشياء وصار كالقبة، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قبابا من اللؤلؤ.
ويصف النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى في أحاديث مختلفة، ففي الصحيحين أنه قال: (ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، قال: -أي جبريل- هذه سدرة المنتهى)
وفي الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر –رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول وقد ذكرت له سدرة المنتهى فقال: (يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب، فيها فراش الذهب، كأن ثمارها القلال).
وقد اختلف العلماء في سبب تسمية هذه الشجرة بهذا الاسم، على أقوال: فمن قائل: سميت بذلك؛ لأن علم الأنبياء ينتهي إليها، ومن قائل لأن الملائكة تنتهي إليها، ومن قائل لأن أرواح المؤمنين تنتهي إليها، ومن قائل بانتهاء كل من كان على سنة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، والقول السادس يرى أنها سميت بذلك لأنه من رفع إليها فقد انتهى في الكرامة، وفي الحديث عن أبي هريرة قال المصطفى –صلى الله عليه وسلم- (لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى، فقيل له: هذه سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وإذا هي شجرة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام والورقة منها تغطي الأمة كلها).
وعند سدرة المنتهى جنة المأوى التي تأوي إليها أرواح المؤمنين، ويغشى هذه السدرة نور من الله حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها، وقيل يغشاها فراش من ذهب، وفي الحديث (رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة ملكا يسبح الله تعالى).
ويعلل الماوردي في معاني القرآن لاختيار سدرة المنتهى في مقام الإسراء والمعراج فيقول: (فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف، ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا وعملا ونية فظلها الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره).
ولما كانت السدرة بهذه المكانة قال النبي –صلى الله عليه وسلم: (من قطع سدرة صوب الله في رأسه النار)، وفسر أبو داود هذا الحديث فقال: (هذا الحديث مختصر، ويعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا بغير حق يكون له فيها صوب الله في رأسه النار).
والنصوص السابقة تصور لنا كثيرا من الغيب عن سدرة المنتهى، الذي ينبغي أن نؤمن به وننطلق منه إلى المشهد كي نرى تجليات الغيب حاضرة في سلوكنا، وأخلاقنا، وهذا الربط بين الغيب والمشهد نلحظه في كثرة تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بالشجرة؛ لأن الشجرة بها يستظل من الحر، وتكون مصدرا للغذاء والكساء، فمثلا يشبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنخلة لأن ورقها لا يسقط، وكذلك المؤمن لا تسقط ثمار خيره، فهي نافعة في حياته وبعد مماته من عمل صالح أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.
ويتجلى آثار الغيب في المشهد بتحذير النبي –صلى الله عليه وسلم – من قطع هذه الشجرة، أو أي شجرة يستظل بها ابن السبيل؛ فالطبيعة الجميلة بأشجارها ينبغي أن يحافظ عليها الناس، مهما اختلف دينهم أو جنسهم أو لونهم، ومن ثم قال النبي –صلى الله عليه وسلم – (من) لتفيد العموم والشمول بغض النظر عن تحديد جنس القاطع أو لونه أو دينه.
كما تتجلى آثار الغيب في المشهد بتلك الأوصاف التي تؤيد صدق النبي صلى الله عليه وسلم، على مر العصور؛ حيث إنه عليه الصلاة والسلام لم يصف لصحابته تفاصيل المعراج؛ لشكهم في صدقه، وإنما وصفها ليزدادوا إيمانا؛ فلقد حكى لهم ما أطلعه الله عليه من معجزات باهرات يدور أغلبها على ثواب المتقين من جنات وعلى عقاب الكافرين من صور العذاب وأصنافه؛ فهي آيات وصفها الله تعالى بأنها الكبرى( لقد رأى من آيات ربه الكبرى).
إن معجزة الإسراء والمعراج التي ذكرت فيها سدرة المنتهى آية من آيات الله تعالى التي تتجدد فيها الدروس، لتكون واقعا حيا نابضا يضخ في دماء الأمة الحيوية، ويبعثها على النشاط؛ لتحيل جهلها إلى معرفة، وظلامها إلى نور؛ فما كانت أوصافه عليه الصلاة والسلام لهذه السدرة ولغيرها من الآيات الكبرى للتسلية بل لأخذ العبرة، ونشر العلم، ليتسع الأفق، ويسبح الخيال في هذه الصور التي لا يكيفها عقل أو يحتويها في الورى بشر، وعندما يتسع الأفق، ويصبح قادرا على الخيال فإنه بذلك يكون معدا للتفكير السديد، ومهيئا للإبداع. فالتفكير فريضة إسلامية، إذ الغباء في ديننا معصية كما يقول الشيخ الغزالي رحمه الله.